إن إختيار الله تعالى للحضارة العربية ، بأن تكون الحاضنه لدينه الجديد ، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك ، بأنها كانت البيئة المناسبة ، لينشأ وينمو ويترعرع فيها هذا الدين ، بكل ما كانت تمتلكه من مبادئ وقيم وموروث وسلوكيات حضارية ، وبهذا الإنتقاء والإختيار الإلهي للحضارة العربية بالذات دون سواها من الحضارات الأخرى ، التي كانت موجودة في ذلك الوقت ، يمكننا أن ندحض كل الإفتراءات والآراء ، التي تحاول أن تحط من شأن الحضارة العربية ، سواء في الفترات التاريخية القديمة السابقة لظهور الإسلام ، أو في الفترة التاريخية التي كانت سائدة أثناء ظهور الإسلام ، أو في فترة ما بعد ظهور الإسلام وانتشاره وتوسعه ، وذلك رغم ما كانت تعانيه هذه الحضارة ، من تدهور وضعف في بعض الفترات التاريخية ، مثلها مثل بقية الحضارات ، حيث أن تاريخ الحضارات الإنسانية ، يؤكد بأن كل الحضارات الإنسانية ، من الطبيعي أن تمر بفترات قوة وازدهار ، وكذلك فترات ضعف وتراجع وهكذا ..!!
ورغم التدهور والضعف الذي كانت تعيشه الحضارة العربية في فترة ظهور الإسلام ، نتيجة الغزو النصراني الحبشي لمملكة حمير ، وما ترتب عليه من التدخل الفارسي ، ليسيطر الفرس على السلطة في عاصمة الحضارة العربية صنعاء ، إلا أن الحضارة العربية كانت تحافظ على الحد الأدنى من مبادئها ، وقيمها ، وعاداتها ، وتقاليدها ، وتراثها الحضاري ، وهذه الميزة هي التي أهلتها لأن تكون البيئة المثالية لنشأة الدين الإلهي الجديد في أحضانها ، وما كان ينقص الحضارة العربية لتنهض من جديد ، وتنهض من كبوتها ، وتستعيد دورها الريادي والحضاري ، سوى منهج حضاري ، يساعدها على توحيد كيانها وتفعيل قدراتها وطاقاتها ومقوماتها الحضارية ، التي كانت كامنة داخل نسيجها الإجتماعي ، وبنيتها الفكرية والحضارية ، فكان الإسلام هو ذلك المنهج الحضاري العظيم ، الذي كان له دور كبير في استنهاض مقومات وطاقات الحضارة العربية ..!!
ولا يمكن لأحد أن ينكر الدور الكبير للحضارة العربية ، في حمل رسالة الإسلام ونشرها والدعوة إليها ، ولا يمكن لأحد أن ينكر ما قدمته الحضارة العربية من التضحيات الجسيمة في سبيل ذلك ، إنها كانت بحق تلك الحضارة التي كانت جديرة بتحمُّل تلك المسئولية العظيمة ، رغم بعض السلبيات والتصرفات البشرية التي رافقت ذلك ، ولا يمكن أن ينكر أحد بأن الحضارة العربية ، قد قامت بأداء المهمة التي كلفها الله تعالى بها على أفضل حال ، والتي كان لها الدور الأساسي في ظهور وإنتشار الإسلام كدين إلهي ، وكمنهج إنساني وحضاري عالمي ، وخير دليل على ذلك عندما وصل الإسلام إلى جنوب شرق آسيا ، إلى أندونيسيا وماليزيا والفلبين ، فقد وصل عن طريق التجار الحضارم اليمنيين ، الذين جسدوا سلوكيات وأخلاق الإسلام أفضل تجسيد ، ليدخل مئات الملايين من سكان تلك المناطق إلى دين الله أفواجاً ، بدون أن تسفك قطرة دم واحدة ، وبدون الحاجة للسيف والعنف والإجبار والإكراه ، لتتجسد الدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة والسلوك والمعاملة الحسنة في أنصع صورها ، وفي ذلك الدليل القاطع على الحس الحضاري الذي يتمتع به أبناء الحضارة العربية ، الذين حملوا على عاتقهم نشر دعوة الإسلام إلى أصقاع المعمورة ..!!
وبفضل ذلك بعد فضل الله تعالى انتشر هذا الدين وهذا المنهج الحضاري متخطياً القومية العربية ، ليصل إلى بقية القوميات والحضارات الإنسانية ،
وذلك لأن الدين الإسلامي ، يحمل في طياته أفكار ، ومبادئ ، وقيم ، وسلوكيات إنسانية حضارية عالمية ، قال تعالى :- (( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً )) ، وهو بتلك الأفكار الحضارية الراقية ، قد إحتوى كل القوميات والعصبيات التي آمنت بهذا الدين ، ليصهرها في قالب واحد ، وفي كيان جديد جامع وشامل هو الحضارة الإسلامية ، والحضارة العربية بعد الإسلام ، مثلها مثل غيرها من الحضارات أصبحت جزء من كيان الحضارة الإسلامية ، رغم ريادتها ودورها الرئيسي في نشأة هذه الحضارة العالمية ، لأن الدين الإسلامي بأفكاره الإنسانية والعالمية والحضارية ، يرفض تماماً كل الدعوات القديمة البالية ، التي تُمجِّد العصبية ، والمناطقية ، ليجعل المسلمون بإختلاف أجناسهم وألوانهم وأعراقهم سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، وهنا تتجلى عظمة وحضارية وإنسانية وعدالة الدين الإسلامي ..!!
-->