هَوَسُ البحث عن ليلة القدر

د. عبدالقوي القدسي
الجمعة ، ٢٢ مايو ٢٠٢٠ الساعة ٠٢:٢٠ صباحاً

 

لشهر رمضان مكانة خاصة لدى المسلمين، فبالإضافة إلى كونه أحد أركان الإسلام الخمسة ففيه أيضًا ليلة مباركة أُنزل فيها القرآن وهي في الميزان خير من ألف شهر .

باستثناء الإشارة إلى مكانة " ليلة القدر" وبأن القرآن الكريم نزل فيها لم يخض القرآن في تفاصيل أخرى، كما أن الأحاديث لم تتفق على تحديد ليلة بعينها سوى إشارات إلى احتمالية وقوعها في ليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان، وبذلك نعلم يقيناً بأن تلك الليلة هي إحدى ليالي رمضان، وتمر كغيرها من الليالي دون أن تلبس طاقية الإخفاء أو أن تتوارى عن الأنظار أو خلف الكثبان .

لماذا أخفى الله "ليلة القدر" ولم يحددها بدقة-تماماً- كما أخفى ساعة الموت، أو قيام الساعة؟!!!

العاطفة الدينية تضفي هالة وتقديساً للعديد من المسميات الروحية،  وتحديد "ليلة القدر" ربما يقود الناس إلى عبادة تلك الليلة من دون الله، كما أنها ستدفعهم للركون إليها، ولا غرو في ذلك، فهذه ليلةٌ خير من ألف شهر  !!

"ليلة القدر" ربما يجدها الطالب في كتابه الذي يعكف على مذاكرته، وقد يجدها العامل في العَرَق الذي يتصبب من جبينه وهو يبحث عن اللقمة الحلال ليطعمها أبناءه، وليلة القدر ترفع قدر الساعي على الفقير والمسكين و الأرملة واليتيم، وتُظللُ ببركتها الباحث في ميدانه والعالِم في مختبره ومَعمَله، والطبيب في مشفاه،  والجندي في ثكنته.

يصاب البعض بهوسٍ يفقدهم صوابهم وهم يبحثون عن ليلة القدر في زوايا المساجد، ويستكشفون في اليوم التالي أشعة الشمس، ويرقبون هدوء تلك الليلة، وينصتون لعلهم يسمعون نباح كلبٍ، أو تشاجُر خصم، أو ينامون بعض الوقت بنية رؤية " ليلة القدر" في المنام، ظانّين بأنها تمر تسللاً على قوم دون قوم وإنسان دون آخر، وغفلوا عن قوانين الله التي تحكم الكون، وبأن ليلة القدر تمر على جميع الخلق كإحدى ليالي الشهر، ولكننا لا نعلم أي ليلة تكون .

يقوم البعض بحسابات التجار، فالصلاة في ليلة القدر خير من صلاة ألف شهر فيما سواها ، وكذلك الصدقة، وسائر العبادات، وهكذا يستفرغ البعض من الناس طاقتهم بحثًا عن ما يشبه ربح التاجر، أو روحانية العابد !!!

إن اعتقاد البعض المُبالَغ فيه "بليلة القدر"ليست قضيتنا، فلكل إنسان الحرية في أن  يختار طريقة إيمانه واختياره، ولكن أن يصل البعض في تجلياته إلى التحقير من شأن الآخرين الذين يضربون في الأسواق، أو يعالجون ظروف الحياة، ولا يتمكنون من حبس أنفسهم في زوايا المساجد فهنا تكون المشكلة، وتسيطر غرور الطاعة .

هل مجرد القيام في هذه الليلة يمحو ما تقدم من الذنوب صغيرها وكبيرها؟!!! وهل يمكن الاكتفاء بالعبادة فيها عن عبادة ألف شهر، أي ما يربو عن ثلاث وثمانين عاماً، وهو ما يساوي تقريباً عمر الأنسان في هذه الدنيا؟! وهل المعتكف التالي للقرآن في أمن ودَعَةٍ وسلام - على سبيل المثال- أرفع قدرًا من المرابط في حراسة البلاد والعباد والحفاظ على أمنهم وسلامتهم واقتصادهم ؟!!

هناك عبادات فردية وأعمال جماعية، ولا شك فإن السمو الروحي الذي يشعر به القائم المعتكف في إحدى بيوت الله لا يتجاوزه إلى غيره، وإن نامت عينه فلا حرج عليه ولا لوْم، وربما استعان بالنوم على طول القيام، بينما المعتكف على مصالح الناس، والحارس لأمنهم والقائم بشئونهم أثر أعماله متعدية إلى غيره، وربما أدركت الناس شدة، وانتابهم ضيق حال تقصير هؤلاء في واجباتهم، فهل للمعتكف المنكفىء على ذاته الباحث عن ليلة القدر في زوايا مسجده فضل على أولئكم المعتكفين على مصالح الناس القائمين على شئون أهليهم ومجتمعهم؟!!!

إن الإسلام يصف تلك الليلة بأنها"سلام" فهل يدرك فضل تلك الليلة المتقاتلون من المسلمين الذين ربما قاموا الليل وقرءوا كل القرآن متجاهلين كل آيات الأخوة والحب، والوئام ، متيقظين لكل آيات القتال والجهاد لإنزالها على خصومهم من المسلمين الذين لا يختلفون- في نظرهم- عن كفار قريش أو يهود بني قريظة؟؟!!!

" ليلة القدر" تذكير سنوي للمسلمين بالسلام، وبث لروح المحبة والوئام، ودفع بالمؤمنين إلى التراحم والتعاطف والعمل والبذل والعطاء، ولقد ارتفع شأن تلك الليلة بسبب نزول القرآن فيها، فكذلك يرتفع شأن المسلم الذي اتخذ من القرآن في حياته منهجًا.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي