التكلفة الغارقة ... كن شجاعاً بما يكفي وتَوَقَّف! 

د. عبدالقوي القدسي
الاثنين ، ١٤ يونيو ٢٠٢١ الساعة ١٠:٠٨ صباحاً

إذا توقفنا فسيذهب كل شيء أدراج الرياح، عبارة نسمعها كثيرا،ً وهي تحمل في طياتها الكثير من المعاناة، والإصرار على إطالة تلك المعاناة.. تنفق الشركة مبالغ هائلة في التسويق لمنتَج، ولكن لا أثر لتلك الدعاية. يرتفع صوت العقل فيقول:

لنتوقف إذاً، وننظر في البدائل، فيرتفع صوت العاطفة: لقد خسرنا الكثير، ولا بد من الاستمرار، سيذهب كل ما أنفقناه سدىً، لا بد من دفع المزيد من المال ! أيهما الأفضل:

أن تستمر الشركة في الحملة الإعلامية الفاشلة تحت مبرر "لقد خسرنا الكثير من المال" أم تتوقف، ويعترف القائمون على الحملة بالفشل، ويتم تقييم الحملة؛ فتحتفظ الشركة بما تبقَّى من موازنة، وتنفقها في محلها؟! صوت العقل يقول:

لنتوقف، ونحافظ على ما تبقى، وصوت العاطفة يقول: لابد من الاستمرار، كيف نقف وقد أنفقنا الكثير؟! هذا ما يُسميه رولف دوبلي في كتابه فن التفكير الواضح بـ " مغالطة التكلفة الغارقة". أطراف متحاربة، قدمت التضحيات، وآلاف من مقاتليها لقوا حتفهم، ودُمرت البلاد وحلَّ الخراب ودُمر الاقتصاد. يأتي صوت العقل فيقول:

لنتوقف، ولنحافظ على ما تبقَّى من وطن، وأموال، وأرواح، فينبري صوت العاطفة: وهذه التضحيات كلها، وأرواح شهدائنا، وجهدنا وجهادنا، أين سنذهب بكل ذلك؟! إن التراجع عن الحرب خيانة لدماء الشهداء. إنها عقلية " التكلفة الغارقة" التي تُعمي صاحبها عن الرجوع خطوة، والحفاظ على ما تبَقى، وتدفعه بقوة للتضحية للاستمرار في المغامرة وتقديم المزيد من الدماء، بدون فائدة مرجوة. لقد بلغ النبي محمد (ﷺ) مكة، وقد رأى في منامه أنه يطوف هو وأصحابه بالبيت الحرام.

إن نفوس المسلمين تهفو لرؤية البيت الحرام وتعظيمه. كان الصحابة واثقين كل الثقة بأنهم سيبلغون هدفهم، ولكن – للأسف – انتهى الأمر إلى صُلح يُنهي كل تلك الأحلام. لقد وقَّع النبي (ﷺ) وثيقة مع قريش تُفضي إلى عودته دون زيارة البيت الحرام وأداء العمرة . لم يكن الأمر هيِّناً على المسلمين. لقد استحضروا كل تضحياتهم، واستحضروا رؤيا النبي الحقة، ولاحَت صورة قريش المغرورة أمام أعينهم، حتى قال قائلهم : "فلمَ نعطي الدنية في ديننا" . لقد كانت " التكلفة الغارقة" حاضرة وبكل قوة، ولكن السؤال:

ما تكلفة دخول مكة في ظل تعنُّت قريش وعزمها على منع المسلمين بكل ما أوتيت من قوة؟! هل من الشجاعة الإقدام، أم إن الشجاعة الحقيقية تكمن في التراجع وحِفظ الدماء ؟!! ما المقصود بالتوبة في منهج الإسلام؟ ألا تعني التراجع ؟ لماذا يقبل الله من المجرم توبته وقد أفسد في الأ رض وارتكب المعاصي والآثام؟ هل إغلاق باب الأمل للتوبة في وجه المجرم أفضل أم فتحه؟ إن في قصة الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً - الواردة في الحديث المتفق عليه – عبرة، لقد استفتى القاتل عابداً،وعالماً، فالعابد نظر إلى التكلفة الغارقة، فأفتاه بأن باب التوبة مغلق، فقتله، فكان العابد تمام المائة، بينما العالم قال له: ومن يحل بينك وبين التوبة؟ فحفظ نفسه، ولم يتسلط على غيره .

منطق التوبة يقوم على وضع حد بين الإنسان وبين استمراره في الفساد، ومنهج الإسلام لا ينظر إلى الشخص بقدر نظرته إلى السلوك، فإذا تغيَّر السلوك، فإننا نجد أنفسنا أمام إنسان آخر..

ولننظر إلى الذين دخلوا في الإسلام بادئ الأمر، كيف كانوا، ثم كيف أصبحوا، لقد صنع منهم الإسلام خلقاً آخر! هل العودة إلى الحق خير أم التمادي في الباطل؟ أوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، فقال:

ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهُديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا يُبطله شئ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. انسحب خالد بن الوليد من مواجهة الروم في معركة مؤتة، بعد أن رسم جيش المسلمين بثباته أمام جحافل الروم أنصعَ صور الشجاعة والتصحية، عندما رأى بأن الاستمرار يعني فناء الجيش!! ناداهم البعض عند عودتهم إلى المدينة: يا فُرّار، ولكن النبي (ﷺ) قال :

ليسوا بالفُرَّار، ولكنَّهم الكُرَّار - إن شاء الله عز وجل.[السيرة النبوية لابن هشام]. لو أن شخصاً قطع آلاف الأميال واكتشف مؤخرا أنه في الاتجاه الخطأ، فما القرار الاصوب، هل الاستمرار في المُضي قدماً بحجة أنه قد بذل جهداً كبيراً، أم العودة إلى المسار الصحيح؟! يفكر البعض في التكلفة الماضية، ولا يفكرون في أن الاستمرار في الاتجاه الخطأ يضاعف تلك التكلفة. هل يُعيب الطالب تغييرتخصصه بعد سنتين من المعاناة؟ وهل يعيب التاجر تصفية شركته الفاشلة، والبدء باستثمار في مجال آخر؟ هل يُقبل أن يستمر الإنسان في المعاناة بحجة أنه قد عاني الكثير من قبل ؟! هل يليق بعاقل أن يتجرع نوعاً من الطعام أو الشراب الفاسد تحت مبرر أنه قد دفع قيمته؟ قد يكون اتخاذ قرار التراجع صعباً، ولكن الأصعب منه هو الاستمرار، وقد يتحدث الناس عن عدم ثباتك أو عن هزيمتك، وهذا أمر يصعب عليه تحمُّله، ولكن الأكثر صعوبة أن لا تمنح نفسك فرصة في المستقبل باستمرارك حتى تخسر كل شيء. إن حرب فيتنام أطيل أمدها بحجة: " لقد ضحينا بالعديد من الجنود في هذه الحرب، وسيكون من الخطأ التراجع الآن .." .

إن تجارب الحياة لا تنتهي، وكونك فشلت في بعض مهام الحياة أو رفعت الراية البيضاء في شأن من شؤونك أو اعترفت بالخطأ، أو انسحبت من ميدان المنافسة ريثما تستعيد أنفاسك، فهذا كله لا يعني النهاية، بل هو البداية لتكون أفضل، وليس من الحكمة أن تسمح لعواطفك أن تقودك نحو المهالك. والخلاصة، لا تستمر في الاتجاه الخطأ، وكن شجاعاً بما يكفي وتوَقَّف. 

الحجر الصحفي في زمن الحوثي