من أعلام الثورة .. عبد الله راوح

د. عبدالقوي القدسي
الأحد ، ٢٧ مارس ٢٠٢٢ الساعة ٠٥:١٥ مساءً

 

طلبتُ من أحد زملاء الدراسة في مدرسة الثَّورة أن يقصَّ عليَّ موقفًا أثّر عليْه أثناء دراسته في المرحلة الابتدائية، سألني ما الأمر؟ أجبْتُه: "إنّني أريد أن أكتبَ عن أهمِّ شخصيَّةٍ تربويّةٍ في المنطقة"، فَهِمَ مقصَدي، وأدركَ غايتي، فقالَ: "إن المواقفَ كثيرة يا أخي، ثم أرْدفَ قائلًا:"أثناء بنائِه لمنزله، كنتُ أنا وبعض الزُّملاء نعمل عنده، فَكُنَّا ننقلُ إلى بيتِه النَيْس والكرِّي  بالحمير في الفترة الصَّباحيَّة، وندرس بعد الظهر، وكان يعاقبُنا على التأخُّر، فقُلنا له: "نحن نعْمل معك في بيتِك إلى الظُّهر" فسمَحَ لنا أن نُنهي العمل معه السَّاعة الحادية عشرة والنصف، أي قبل انتهاء الموعد بساعة تقريبًا؛ لنتمكن من تجاوز المشكلة، وكان يوفِّي لنا الأجرة، ولا يخصم علينا ريالاً واحدًا".

إنَّني أتحدث عن رجل استثنائيٍّ، لا يمتلك مؤهلاتٍ عُليا، ولم يحضر دورات تأهيلية في الإدارة والتخطيط ومجالات الجودة، لم يطَّلع على تجارب الأمريكان، وفنلندا وسنغافورة ولا اليابان، إنه المدير الاستثنائي صاحب القلب الكبير، والنَّفَس الطويل، والهمة العالية، مُربِّي الأجيال المتتابعة في مدرسة الثورة صبُن قَدس، الأستاذ عبد الله راوح نعمان، إنِّني أجدُ نفسي عاجزًا عن اجتباء الكلمات المُعبّرة بجلاء عن تقدير هذا التربوي العملاق، ناهيك عن توثيق أعماله الجليلة خلال فترة طويلة من الجودِ والعطاءِ والعمل الدؤوب. 

كان مديراً، ومعلمًا، وموجهًا، ومُربيًا، تعلَّمنا على يديه قواعد العربية والإملاء، وأخذ بأيدينا إلى إجادة خُطوط العربيَّة، من حق القارئ أن يتساءل: كيف تحقق كل ذلك؟  يذكر زملائي الكرام، عندما كُنّا في الصف الثاني ابتدائي، كنا محظوظين فمدير المدرسة نفسه هو أستاذنا، كان حريصاً على أن نحفظ بطريقةٍ صحيحةٍ، وفي المقابل كان يُكلفنا بكتابة قصار السُّور ثلاثين إلى ستين مرَّة أو أكثر، يا إلهي! لقد كان الأمرُ مرهِقًا جدًا، ولكن ليس أمامنا خيار آخر، فَعدمُ القيام بالواجب سيُعرّضنا للتوبيخ، وربما نِلنَا نصيبنا من عصاه المباركة، كُنا نكتب كثيرًا، ونلتزم في الكتابة برسمِ المصحف وضبطِ الحركات، ومن ذكريات الزمن الجميل أننا كنا – معشر التلاميذ – نحاول تقْليد خَطّ المدير الجميل، وتوقيعه المميَّز والفريد، وحركة يديه أثناء الشَّرح، وخِفّة حركته أثناء السَّيْر.

لا شكَّ بأن هناك فروقًا فردية، وبأن الطَّلبة يتمايزون فيما بينهم في مستوى الذكاء، والقدرة على الاستيعاب، وهناك عدد من الطلاب الضعاف في الرياضيات وسائر المواد، فما المعالجة التي اعتمدها الأستاذ راوح؟ لقد قام بحصْر الطلبة المتميزين والطلبة الضِّعاف، ووزّع الضعاف على الأقوياء بحسب قُربهم في السَّكن، وما أزال أذكر المجموعة التي كانت تحتَ إشرافي، لقد جهَّزنا لوحاً خشبيًّا، وقُمنا بطلائه باللون الأسْود، ولم يبخل علينا المدير بمجموعة من الطباشير الملوّنة، وكنا نجتمع في مسجد قريتنا المتواضع، ونقوم بمراجعة الدروس، وكتابة الواجبات، وإذا بمستوى الطلبة الضِّعاف يشهد تقدمًا، فالتعلم من الأقران من أهم استراتيجيات التعلم الفعَّال. إن عملية التَّحسين والتطوير لم تتوقف في المدرسَة، فقد قامَ بتوصيل الماء للمدرسَة من قريتِه البعيدة الغنيَّة بالمياه (الهُجْمَة- موطن عشيرتِنا العسَّيرَة)، وبَنَى مجموعةً من دورات الميَاه بتعاون الأهالي، وعمِلَ على تأسيسِ مجلسٍ للآباء ليكون داعمًا للمدرسة، واستطاع بجهده الدؤوب استكمال جميع المراحل الدراسيّة: ( الابتدائية، الإعدادية، والثانوية)، ولم يكن يتوانى في التوجّه السَّريع إلى الجهات المسؤولة ليستلم حصَّة المدرسة من الكتب، الكراسي الجديدة، والطاولات، ولم يكن يأبَه بأيام الإجازات الرسمية، أو بالتنقل في سيَّارات الأجرة على حسابِه الشخصي.

في بداية كلِّ عام كان يكافحُ لتأمينِ طاقم التدريس من الأشقّاء المُوفدين، كان يُحسِن اختيارهم، ويستقبلهم بنفسه، ويدعوهم لتناول الطَّعام في بيْته في أيام كثيرة، وتحديدًا يوم الجُمعة والأعياد والمناسبات المختلفة، كلُّ ذلك هيّأ بيئةً تعليميةً مريحةً، ورضاً وظيفيّاً، وقدِ انعكس ذلك جليًّا على أداء المعلمين.

كان يعالجُ المشكلات بمهارة عالية، وما نزال نتذكر حركةَ يديْهِ أثناء حديثِه معنا أو نُصْحِه وتوجيهاته، وكان هو المرجعُ لحلِّ مشكلاتٍ عديدةٍ خارج المدرسَة، لم يكن شخصيّةً انفعاليةً، بل كان يتميَّز بهدوئه، واستيعابه لمشكلات الطلبة وأولياء الأمور والمعلمين، ولم يكن يستعجلُ في اتخاذ القرار، لكنه كان شديدًا عند إنزال العقوبة، وكان مهيبًا، إذا ضَرَب أوْجعَ، وإذا مشَى أسرعَ، كُنّا نتحمس ونرافقهُ – أحيانًا- حالَ الذهاب إلى المدرسة أو العودة منها، ولم يكن بمقدورنا مجاراته في السَّرعة، لكننا- على أيّ حال – نبذل جهدنا.

عرَفتْ مدرسةُ الثورة طباعة الاختبارات بأوراقA4  باكرًا، فما قصَة الطباعة ؟ انضمَّ إلى هيئة التدريس الأستاذ علي أحمد حرَّان، أحد الأشقاء السُّودانيين، وكان مجتهدًا جدًا ومُنظمًا، وصاحبَ أفكارٍ إبداعيةٍ، وما نزال نتذكرُ الألواح التي كان يصمّمها ويقوم بطلائها وتلوينها؛ لتعليم طلبَته اللغة الإنجليزية، قدَّم المعلمُ السُّوداني مقترحًا، بأن يتم استبدال كتابة الاختبارات على السّبورة إلى الطباعة على الورق، وأبدى استعداده للمساعدة، وفور حصوله على الموافقة، قامَ بصناعة طابعة من ألواحٍ خشبية، وطلب من المدير أن يشْتري أوراقًا خاصّة لكتابة الأسْئلة، وحِبرًا، وأوراقًا نوعA4   من مدينة تعز لسحْب الأسئلة عليها، فاستجاب واشترى كل المطلوب، ونجحت التَّجربة، فكانتْ مدرسة الثَّورة من أوائل المدارس التي عرفت طباعة الاختبارات، لعلّكم تستغربون إن أخبرتكم بأن مدير المدرسة كان ينتدبنُي مع آخرين للمساعدة في كتابة الاختبارات وطباعتها على تلك الطابعة اليدوية للمستويات الدنيا من الصُّفوف الدراسيَّة.

أشرتُ في مقالٍ سابقٍ إلى أن الأستاذ عبد الله راوح، كان يُغَطي الشاغر من حصص الطلبة في الصفوف الدنيا بانتداب مجموعةٍ من الطلبة المتميزين في الصفوف العليا، ولأنَّ المدرسة كانت تعمل بنظام الفترَتين، فلم يكن قيام الطلبة المتميزين بتغطية العجز يؤثر سلبًا على دراستهم،كنتُ واحدًا من الطلبة المنتدبِين للتدريس، وكان الطلبة الصغار يستجيبون، ويُنصتون لنا، ويتفاعلون معنا أثناء تدريسهم.

إذا سألتم عن الأنشطة في المدرسة، فإنَّني أرفعُ قبّعة الاحترام لأستاذنا الذي يؤمن بأن النَّشاط المدرسي يعدُّ جزءًا لا يتجزأ من  المنهج، لقد كانت المدرسة أيامَنا كخليةِ نحْل في الأنشطة المدرسية الصفيّة واللاصفيّة، ولو يتذكر زملاؤنا كيف كانت قاعات الدراسة تعُجُّ بالعديد من الوسائل التعليمية التي أعدّها الطلبة بإشْرافٍ منْ معلميهم، لقد كنتُ أحد الطلبة الذين كتبوا وسائلَ تعليمية كثيرة، ولقد أخبرني بعض الزملاء بأن آثار كتاباتي على بعض جدران المدرسة ظلّتْ على حالها لفترةٍ طويلةٍ حتى تم إعادة ترميمِ وتأهيلِ المدرسة فطُمِست تلك الآثار.

التحقَ بمقاعد الدراسَة أحد الطلبة المبدعين في كرة الطائرة من نادي الصَّقر الرياضي بتعز، فعَهِد إليه المدير تأسيس فريقٍ رياضيٍّ للمدرسة، وحثَّه على الاجتهاد في تحصيل العلم الذي جاء لأجْله من تعز، فتمَّ إنشاء ملعب كرة طائرة في ساحة المدرسة وتجهيزه بما يلزم، وفي نفس العام الدراسي تمَّ التّنسيق مع مالك أرضية القَطِين واتخاذه ملعبًا لكرة القدم، كما تمَّ تأسيس فرقة مسْرحية وفنيّة، وشهدت المدرسة احتفالاً من إعداد الطلبة، ودُعي إليه جميع أبناء القرية، ولقد أُعجب الأهالي بإبداع أبنائهم، وما نزال نحتفظ ببعض الصّور النادرة، لقد برزت مواهب طلابية في مختلف المجالات، كما استطاعت المدرسة تأمين سمَّاعات كبيرة ومايكرفونات من أحد رجال الأعمال، وكانت الأناشيد الوطنية تصدحُ كل يوم من جنَباتها.

عُرف بين الناس بالمدير، ولربما ناداه البعض باسمه مجردًا عن أي صفة، ولم يكن يستنكف من ذلك، ذات مرّة وصل مجموعة من العسكر إلى القريَة على إثْر نزاعٍ على أرضيَّة، تسألهم أمُّ مُشْتري الأَرضية، محل النزاع: من أرْسلكم؟ فيقولون: المدير، وعلى الفور هرعت، وصرخت في وجه المدير وهي غاضبَة: "لماذا تُرسل العَسْكر؟ نحن اشترينا ولم يَسْطُ ابني على أرضية أحد، كما تعلم! حاولَ – عبثًا أن يوقفها – وأن يخبرها بأنّه ليس هو مَنْ أرسلهم، لكنها استمرت في توجيهِ كلماتِ الّلوم والعتاب والتوبيخ، فاختار السكوت حتى سَكت غضبُها، واتضح لها بأن المدير المقصود هو مدير قِسْم الشرطة وليس مدير المدرسَة، لقد كانت معذورة، فالناس لايعرفون مديرًا غيره، ولا يُوصَف بالمدير أحدٌ سِواه.

عندما أخبرتكم بأنني سأكون عاجزًا عن وصف ما قام به أستاذنا الكبير، لم أكن مبالغًا، ولا متحيزًا،أو مجافيًا للحقيقة، لقد حاولتُ أن أسوقَ أمثلة عديدة؛ لتكون برهانًا على عبقرية المدير، وإخلاصه وتفانيه، ولكنّني أرفع الراية البيضاء وأعترف بأنها غير كافية، كما أنني أعترف بعجزي عن حصر أعمالِه الجليلة في خدمة العملية التعليمية، وأفتخر في ذات السِّياق بأنني تتلمذتُ على يد هذا العِملاق، وأعُدُّ نفسي قطرةً في بحره الزاخر.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي