الوهم المريح

د. عبدالقوي القدسي
الأحد ، ٠٦ فبراير ٢٠٢٢ الساعة ٠٦:٢٢ مساءً

ثنائية الوهم والحقيقة من أهم ما يواجهه الإنسان في الحياة. يزعم الكثيرون بأنهم ينشدون الحقيقة في كل شؤون حياتهم ويحبون كل شيء يقربهم من الحقيقة . 

 

حقيقة الأمر هو الواقع كما هو، لا كما نحب، والوهم على خلاف ذلك. إن المسافر في الأرض المتسعة ينظر أمامه في الظهيرة فيرى على صفحة الطريق ماء يلمع، ولكن هل ما يراه حقيقة أم وهماً؟  وهل اعتقاد كل المسافرين بأن ما يلمع أمامهم من السراب هو ماء بالفعل في حين أنه مجرد وهم؟ ما على المسافر سوى أن يقف عند منتهى الطريق ويحاول أن يرتشف شربة ماء تُذهب ظمأه أو تروي عطشه، إذا نجح في ذلك، وهذا محال، فما رآه كان في الحقيقة ماءً، وإذا عجز عن ذلك، فما رآه ما هو إلا وهماً !!

هل يحب الناس الحقيقة أم الوهم؟ 

يؤسفني القول بأن طائفة كبيرة من الناس لا يحبون الحقيقة، ولا ييميلون إلى تصديق الكثير من الحقائق. قد يبدو الأمر غريبًا، إذْ كيف يتجه الإنسان إلى تصديق الوهم وتكذيب الحقيقة ؟! إن الوهم يتوافق مع هوى الإنسان، ويُرضي غروره، والوهم يجعل من الضعيف قوياً في عالم الخيال، ويجعل من الغبي ذكياً في عالم الأحلام، ويجعل من الكاذب صادقاً في عالم الدجل والخداع، ويجعل من العبودية والذلة سيادة وعزة في عالم الجبناء، فكيف لا يميل الكثيرون إلى الوهم!!    الحقيقة تقول بأن الآخر متفوق عليك في العلم والتكنولوجيا وفي السياسة والاقتصاد وفي سائر شؤون الحياة، والوهم يقول بأنك أنت الأفضل، وبأن آباءك وأجدادك حكموا العالم، وبأن الآخر لهم الدنيا والدنيا لا تساوي شيئاً، والنتيجة هو إيمانك بالوهم، وقعودك عن الأخذ بأسباب العلم والمنافسة في عالم الإبداع والحياة.. إن العيش في العالم الافتراضي وأحلام اليقظة شيء مريح وجميل، ولكن النتيجة هو الاستمرار في حالة التخلف والضعف والوهَن، بينما الاعتراف بالحقيقة يدفع بقوة للأخذ بالأسباب والمزاحمة في الحياة بقوة.. وقد قيل قديمًا: "الحقيقة المُرة خير ألف مرة من الوهم المريح".

الوظيفة بين الحقيقة والوهم ...

الحصول على وظيفة هو ما يسعى إليه الكثير من الناس، ولهم الحق في ذلك، فالحياة بحاجة ماسة إلى موظفين وعمال في كل المجالات، ولكن، هل تلك الوظيفة - مهما كان حجم العائد منها - تتناسب مع الموهوبين وذوي القدرات والطموح ؟! إن الوظيفة ما هي إلا وهْم مريح، فالموظف سيظل أسيراً للوظيفة، وستكون غايته القصوى هي إرضاء أرباب عمله.. إن الموظف لا يشعر بالمرارة إلا عند وصوله إلى حالة العجز لأي سبب من الأسباب.. في هذه الحالة سيجد نفسه خارج الوظيفة وسيفقد كل الامتيازات، وما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال.. سنوات العمل التي قضاها الموظف بإخلاص ستتبخر وستكون أثراً بعد عين عند مغادرة الوظيفة.. هذه الحقيقة أدركها الكثير من الموهوبين حول العالم فاتخذوا قرارات جريئة وتحولوا من الوظيفة إلى الاستثمار، ومن العمل لدى الغير إلى توظيف الغير..

لعلنا نتحدث بشكل منفصل عن الوظيفة، وحتى لا نعيش الوهم، فالوظيفة من حيث الواقع تؤمِّن للموظف دخلاً ثابتاً وربما تمنحه بعض الامتيازات من تأمين صحي وراتب تقاعدي وغير ذلك مما يجعله مُخدَّراً ويعيش حياته بشكل اعتيادي والذكي من الموظفين هو من يدير راتبه الشهري بحيث يكفيه لثلاثين يوماً على أحسن الأحوال..أنا مؤمن بأن طائفة من الناس تكون الوظيفة هي غاية ما يطمحون له، وليس في ذلك عيب، وحديث هو خطاب لأصحاب المواهب والطموح.

كنت أتحدث مع بعض الزملاء اليوم، ولقد أثَّر بي صديقُنا الماليزي الذي بلغ الستين في العمر حينما قال: لقد عملت في الوظيفة الحكومية أكثر من ثلاثين سنة، وأنا الآن نادم لكوني لم آخذ بنصيحة أبي الذي كان يؤكد علينا أن لا نركن إلى الوظيفة، وأن نبدأ عملاً خاصاً إلى جوار الوظيفة، وأردف قائلاً : لا أريد لأبنائي أن يكرروا أخطاءنا. وفي ذات السياق يحكي أحدهم قائلاً: لقد عملت في المستشفى ( ...) لأكثر من عشرين سنة وبذلت فيها كل جهدي، وبعد أن خرجت من العمل، ذهبتْ زوجتي للعلاج، وكنت أتوقع أن يتعاملوا معنا بشكل مختلف، لكننا تفاجأنا بأنهم لم يضعوا لنا أي اعتبار خاص، ولم يراعوا تلك السنوات الطويلة التي قضيناها في خدمة المستشفى!!

الطالب الفاشل يُوهم نفسه بأن فشله سببه المعلم، ويعيش ذلك الوهم، والزوج الفاشل يرى أن زوجته هي أصل البلاء وسبب كل المشكلات، ويريح باله ! والمجتمع المنهزم يسارع إلى الارتماء في حضن نظرية المؤامرة، فبسبب تآمر الآخرين أصبحنا في أسوأ حال، وهكذا يبرر الهزيمة ويرتاح.

الخلاصة : العاقل هو من يتعامل مع حقائق الأمور، ولو كانت مُرّة، والغبي هو من يَسبح في فَلك الوهم ولا يُتعب نفسه للبحث عن الحقيقة، سيجد الواهم نفسه أمام الحقيقة متجرداً من كل شيء، وسيكتشف أنه كان في خطأ كبير حينما آمن بالوهم وكفر بالحقيقة.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي