الإنسان والنهضة المنشودة 

د. عبدالقوي القدسي
الثلاثاء ، ١٤ يناير ٢٠٢٠ الساعة ٠٣:٥٣ مساءً

يتحدث المفكر الإسلامي مالك بن نبي في كتابه "شروط النهضة" عن ثلاثة أسس للنهضة، وهي : الإنسان، والتراب ، والوقت .

الإنسان هو الأساس الأول والأهم في بناء نهضةٍ أو هدمِ حضارة. ولذا فإننا سنبدأ به، ونحن نتحدث عن النهضة المنشودة.

عندما نتحدث عن الإنسان فإننا -قطعاً- لا نتحدث عن جميع البشر، إذ لا شك بأن الفاعلين عدد محدود، أو نسبة ضئيلة، وبهم تحدث النهضة أو يقع التخلف. ولكن هذا العدد المحدود يمثل الطليعة، والطليعة معنيون بتوجيه العامة وصبغتهم بالصبغة الحضارية للنهضة المنشودة.

عندما نقرأ مقدمة ابن خلدون عن العرب وطبائعهم المتوحشة -بحسب وصفه- فإننا نُصاب بالدهشة، فالعرب في رأي ابن خلدون أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والانَفة، والمنافسة في الرئاسة، وإذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، ويرى ابن خلدون بأن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية .

الإنسان ليس قالباً جامداً حتى نضع له أوصافاً ثابتة تنطبق عليه وعلى عقِبه من بعده ، فهل يجوز نَعتُ المتعلم اليوم بالأمية نظراً لأن أباه كان من قبل أمياً، أو بالغلظة والغباء نظراً لأن جده كان غليظاّ غبياً؟!! هذا منطق لا يقبله عقل!! لكن عامِل الدين الذي أشار إليه ابن خلدون، وتوحيد العرب تحت رايته حقيقة تاريخية لا جدال حولها،إذ لم يتحقق لقلوب العرب المتنافرة ائتلاف، ولم تقم لهم دولة إلا به، وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله : "لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بينهم".[الأنفال:٦٣]. وقد عبّر الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عن ارتباط عزة العرب بالإسلام بقوله:"نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله"[ابن كثير، البداية والنهاية].

استطاع النبي محمد(ﷺ) تهيئة الجزيرة العربية-رغم قساوة طبيعتها، وأمّية ساكنيها - لتصبح منطلقاً لحضارة امتدت على مساحات شاسعة من الكرة الأرضية ، وبدأ بالإنسان!!

بلال بن رباح-العبد الحبشي- رضي الله عنه يصمد في وجه سيده، ويتحمل أشد أنواع التعذيب، وهكذا يفعل عمار بن ياسر، ويُستشهد أبَواه، الواحد تِلو الآخر أمام ناظريه دون أن يجزع أو يتراجع .كيف حصل كل هذا؟ إنها قوة الفكرة المستمدة من عظمة الدين الخاتم. نعم لقد تغيّر وجه الجزيرة، فأصبح السيد والعبد في الإسلام سواء، وأصبحت المرأة شقيقة الرجل في العقيدة والعبادة، وفي معركة الحياة.

الحكم لله يضعه حيث يشاء، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقُطعت يدها ، هكذا يقول رسول الله (ﷺ) كما في الصحاح !!

لو شئتم لقُلتم ، فصدقتم وصُدقتم : كل قضية من القضايا السابقة مؤهلة لأن توصف بأنها ثورة، فما بالنا وقد اجتمعت كلها في حركة نهضوية واحدة؟!!

نعم ، بدأ النبي ( ﷺ) بالإنسان فشهدت البشرية نماذج لولا الإشارة إليها في القرآن الكريم، والسنة الصحيحة لظننا أنها ضرب من الخيال أو روايات كأمثال شهريار وشهرزاد. هل يُعقل أن يُؤْثِرَ يثربيٌ قرشياً، ويُشركه في ماله؟ وهل يمكن للعرب المتوحشين نسيان ثاراتهم والوقوف في صفوف منتظمة في الصلاة؟! ما الذي حدث حتى يصف عمر بن الخطاب القرشي بلالاً العبد الحبشي بقوله: "سيدنا"[صحيح البخاري]. ويتقدم على جلاوزة قريش وسادات العرب المشهورين ؟! هل نحن في حلم أم في حقيقة؟!! إنها عظمة الحضارة الإسلامية، إنها حقيقة التربية النبوية للإنسان !!!

أين ذهبت الطبيعة المتوحشة - بحسب ابن خلدون؟! لقد أذابتها حرارة الفكرة، وقوة العقيدة. ويْكأنَّ الطبيعة، والإنسان تغيرا معاً، بُدِّلت الأرض غير الأرض، والإنسان!!

قال لي أحد الأصدقاء: "الغربيون لا يُمجّدون الأشخاص، بل المبادئ، ولا يُضْفون هالةَ على زعمائهم، بل إنهم يسارعون إلى مساءلتهم ومحاكمتهم إن رأوا منهم حيفاً أو عدولاً عن الطريق. لقد أصبح رئيس الدولة عندهم بمثابة كبير الموظفين إن لم نقل كبير الخدم !!! يختم قوله بالسؤال: أين نحن من هؤلاء، ومتى سنبلغ ما بلغوا ؟!!!

إنه انتقام الأفكار المخذولة يا صديقي، بحسب وصف مالك بن نبي، لقد أضاع المسلمون البوصلة!! إن الإسلام هدم الكهانة والقداسة، وما فتئت آيات القرآن تُذكر الناس بأن محمداً ( ﷺ) بشرٌ يأكل كما يأكل الناس، ويشرب كما يشربون. يمشي في الأسواق، ويلبس كما يلبس الناس، إنه ليس إلهاً أو مقدساً، "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ ..."(الكهف:١١٠) إذا كان هذا في حق رسول الله ( ﷺ) ، المؤيد بالوحي من السماء، فكيف يكون الحال مع من هو دونه؟!!!!!! .

يقف ذو الخُويصرة ليخاطب الرسول القائد ( ﷺ)، وهو يقسم ِقسماً، فيقول: "اعدل يا رسول الله" فلم يهوي الرسول على رأسه بالسيف، بل رد عليه :" ويلكَ، ومن يعدلُ إذا لم أعدل!!"[البخاري]، ويخوض المنافقون في عرضه، ويحيكون المؤامرات، ويشنّون الغارات عليه الواحدة تلو الأخرى في المدينة، فلا يعاقب إلا من ثبت بالدليل تورطه، وأدِين بأفعاله.

إن الارتداد عن حضارة الإسلام إلى عهد البداوة أدخل العرب - تحديداً- في أزمة، فعادت بطبيعة الحال مبادئ الجاهلية من التفاخر بالأنساب، والعصبيات، والتنازع على السلطة، وحب الرئاسة، والخرافة، وذُبحت على أبواب الساسة المستبدين قيم العدل، والمساواة، وانتهكت الحقوق، والحريات. كما أن الارتداد عن حضارة الإسلام والارتماء التام في أحضان الحضارة المعاصرة، وعدم التمييز بين غَثها والسمين، أفرز صوراً شائهة تائهة، ومسوخاً بشرية فاقدة للبصر، والبصيرة والهوية معاً.

إذا أردنا لبلادنا نهضة، فأساس تلك النهضة هو الإنسان، فلنبدأ بإعادة صياغته على أسس منهجية؛ ليكون لَبِنةً قوية في البناء.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي