عن الحضارة، قرطبة، صنعاء، وكوكب القردة .

د.مروان الغفوري
الجمعة ، ٢٦ سبتمبر ٢٠١٤ الساعة ٠٩:١٦ مساءً
 
الحدث اﻷهم، عالمياً، في الوقت الراهن هو هجوم قوات التحالف على الدولة اﻹسﻼمية داعش . تأخر هذا النشاط الدولي كثيراً . قال أوباما لتوماس فريدمان قبل شهرين إن تلكؤ أميركا مقصود، ليدرك الساسة العراقيون فداحة أخطائهم وإلى أين يمكن أن تقودهم الممارسات الطائفية . " أميركا لنتكون مجرد قوات جوية للشيعة " قال أوباما لفريدمان .
 
يستخدم أوباما حالياً في خطاباته مفردتي destroy and degrade
عندما يشير إلى هدف الحرب على إيزيس " داعش ." قبل عام قال إنه سيذهب إلى معاقبة النظام السوري عبر عملية pinprick أي شكة دبوس .
خﻼل ساعات كانت مفردة شكة الدبوس في غالبية التعليقات السياسية . فهم جون ماكين، على سبيل المثال، أنها كلمة تعني شيئاً واحداً : ليس لدى أوباما استراتيجية واضحة . تحدث أوباما عن سوريا مستنداً إلى أسطورتين تاريخيتين : أن أميركا ﻻ بد وأن تفعل شيئاً ﻷنها أميركا . وأن المصداقية
اﻷميركية من الضروري صيانتها .
نعرف ما الذي حدث بعد ذلك .
جاءت داعش بوحشيتها الدينية فمنحت أميركا الفرصة الكاملة ﻻختبار القوة والمصداقية، ولمحاولة إيقاف " الشيفت التاريخي " لمركز الثقالة على
الكوكب . كما منحت العالم فرصة ﻹعادة إنتاج صيغة ما من صيغ التحالفات اﻷخﻼقية.
 
داعش حركة إرهابية تنتمي إلى حقبة ما بعد القاعدة . السر في إرهاب داعش يكمن في مرجعيتها الدينية . فالنصوص الدينية، بمختلف تنويعاتها،
تنطوي على درجة ما من " تمجيد العنف ضد اﻷغيار ." حتى النشيد الوطني الفرنسي يتحدث عن دماء اﻷعداء في الخنادق. يمكن النظر إلى الأناشيد الوطنية بوصفها جزء من النسيج الديني للشعوب. لهذا يرفض الحوثيون النشيد الوطني اليمني، ذلك ان قماشتهم الدينية مختلفة.
 
وضعت الحضارة الراهنة،حضارة كل اﻹنسان، حاجزاً مع كل الماضي وحولته إلى ذاكرة، بكل جماله وفجوره . بقيت البقعة الممتدة من المغرب حتى باكستان خارج الحاجز .
 
فبحسب المعهد العالمي الدراسات اﻻستراتيجية، واشنطون، فقد بلغ إجماليقتلى الصراع في تلك المنطقة في العام 2013 حوالي 75 ألفاً . أي ما يربو على %80 من إجمالي قتلى الصراع في العالم .
 
انتقال داعش من جماعة تقتل في الظﻼم إلى دولة تنحر البشر في وضح النهار هو متغير عالمي خطر للغاية . لقد منحت داعش الشكيمة والقدوة
للتنظيمات اﻹرهابية في أماكن بعيدة . سرعان ما شهدنا حاﻻت نحر للجنود كما لدى القاعدة في حضرموت، وصلب لﻸسرى كما لدى الحوثية في شمال اليمن .
 
التنوير والنار هي الطريقة التي ستساعد هذه المنطقة الموبوءة للخﻼص من أساطيرها المتوحشة . ﻻ يمكن أن نقلل من أهمية ما تقوم به قوات التحالف في سوريا والعراق . هذا العالم ﻻ ينبغي أن يصير إلى مذبح لﻶلهة، وﻻ معبد للموتى . لدى أوباما فرصة جديدة ﻻختبار مصداقية " أخﻼق المجتمع الدولي "بصرف النظر عن إخفاقات هذا المجتمع سابقاً.
 
خطا أوباما على " شكة الدبوس " واتخذ قراراً بتدمير الدولة داعش . ألهمت داعش جماعات اﻹرهاب في أكثر من مكان . لكن انهيار داعش تحت نيران التحالف، وهو أمر ﻻ بد وأن يحدث مهما كانت الكلفة، هو عمل سيرسل بريداً صاعقاً لكل الجماعات المتوحشة بكل تنويعاتها : لن تهددوا الحضارة البشرية لتنصروا أساطيركم. 
 
ديفيد أغناشيوس نصح المسلمين قبل عام : إذا كان وﻻ بد من التاريخ فتذكروا قرطبة . قدمت قرطبة نموذجاً نادراً لتعايش اﻷديان، وكانت هي النموذج اﻷسمى . لكن الذي حدث لقرطبة بعد ذلك كان مخيفا . زحفت الجماعات الدينية المسلحة بأوهام الخﻼفة أو الوﻻية وقوضت المنصة اﻷكثر حضارة في ذلك الزمن عبر آﻻت الموت التي ساقتها الدولتان اﻹسﻼميتان " دولة الموحدين، دولة المرابطين ."
 
الروائي جاك أتلي عاد إلى القرن الثاني عشر وسجل عمله الفني الثري "أخوية اليقظانين ." تخرج داعش من مكانها، تخرج المسيرات القرآنية،
تبحث عن اليهود والنصارى فتلقى بهم في النار، أو في اليم . يصرخ في الرواية رجل مسلم : دعني أسكر، فقد رأيت في أشبيلية إلى أين تقودنا
اﻷديان .
 
في العام 1994 أصدر غارودي كتابه الشهير " اﻷصوليات المعاصرة ." قال إنهاالقرحة التي تتآكل الحضارة . النبوئي العظيم غارودي كان يتخيل واقعنا الراهن . ذلك الحدس استفز محمد عماره فألف كتاباً صغيراً، خطابياً، رداً على كتاب غارودي . يدرك عماره اﻵن أن القرحة أصبحت من الحجم بمكان حتى إن أي عملية إصﻼح معرفية وثقافية لن تجدي معها . فعندما دخل الحوثيون صنعاء أدركت شخصياً إن اﻷصوليات الدينية
ليست قرحة وحسب، بل مشهداً ضخماً يشبه النسخة اﻷخيرة من فيلم كوكب القردة.
 
الصور التي رافقت حركة الحوثيين في شوارع صنعاء يحملون البنادق والنصر لﻺسﻼم نقلتني إلى أعماق " كوكب القردة " ﻷصبح واحداً من
ضحاياه ..
 
سنحتاج لوقت طويل حتى نستعيد كوكبنا . وحتى تدرك قردة الكتب المقدسة، تلك القردة العارية التي تتحول في صنعاء اﻵن، أن حضارتنا
الراهنة التي تقوم على العلم والحرية، وهما البرجان اللذان بنيا على أنقاض اﻷساطير المقدسة، ستهيل عليهما التراب . فالمشهد الراهن يمكن اختزاله
بوصفه معركة بين العلم واﻷسطورة . ما يجري ضد داعش هو غضب العلم ضد وحشية اﻷسطورة . تصحح حضارتنا خطاياها، وتحرس نفسها . وهذه هي حتميتها اﻷبرز .
 
-------
اكتب هذه المقالة من موبايلي في قطار متجهاً إلى مدينة آخن، ع الحدود مع هولندا، لﻼشتراك في نشاط علمي . طبعاً بعد 24 ساعة عمل في المشفى .
اعتذر عن أي خطأ
الحجر الصحفي في زمن الحوثي