من المتعارف عليه بأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي ميزه الله تعالى بنعمة العقل ، ذلك الجهاز العظيم الذي يمنحه القدرةعلى التفكير والتدبر والتأمل في كل الموجودات والمحسوسات في هذا الكون الفسيح ، والتمييز بين الخير والشر ، بين النافع والضار ، بين الحسن والقبيح ، بين الإيجابي والسلبي ، ليتخذ بموجب ذلك القرار المناسب والإختيار الأفضل الذي يعود عليه وعلى مجتمعه الإنساني بالنفع والفائدة ، وجهاز يتمتع بكل تلك المميزات والقدرات الهائلة كان المفترض أن يقود المجتمعات البشرية نحو التنافس الإيجابي ويبعدهم عن التنافس السلبي في كل مجالات الحياة ، فالقوة العاقلة التي يمتلكها الإنسان كفيلة بجعله يسلك السلوك الإيجابي والسلمي في تعامله مع غيره من بني الإنسان ، وكفيلة بجعله يتجنب السلوكيات السلبية والعدائية ، لأنه ليس في حاجة لاستخدام القوة والعنف فهذه هي وسائل المخلوقات غير العاقلة وغير المفكرة ، فقوة الإنسان تكمن في قدراته العقلية ، التي بواسطتها استطاع أن يحمي نفسه من الحيوانات المفترسة ، ومن العوامل الطبيعية المؤذية له ..!!
وبالقوة العاقلة استطاع الإنسان مع مرور الزمن أن يسيطر على الكثير من موارد وعناصر الطبيعة المحيطة به ويسخرها في خدمته ، حتى استطاع أن يوفر لنفسه الكثير من صور الرفاهية ، التي جعلته يتمتع بالسعادة والأمن والاستقرار والقوة والتطور والتقدم ، ولكن الإنسان للأسف الشديد يفقد الكثير من رفاهيته وسعادته ويتجرع الكثير من المآسي والأحزان ، بسبب لجوئه للعنف والقوة بدلاً من الحوار لحل خلافاته مع إخوانه في الإنسانية وشركائه في الحياة ، وكأن القوة الحيوانية تطغى على القوة العاقلة في تلك المواقف ، لتجعل من الإنسان حيوان قاتل وشرس ومتوحش ، وحالة الغضب هي التي تفقد الإنسان قوته العاقلة وتمنح القوة الحيوانية السيطرة ، وهي الحالة التي تخرج الإنسان من طور الإنسانية إلى طور الحيوانية ، من أجل ذلك كان رد الرسول عليه الصلاة والسلام على ذلك الرجل الذي طلب منه النصيحة بقوله :- ( لا تغضب ) ، لأنه عليه الصلاة والسلام يدرك جيدا النتائج السلبية والكارثية للغضب ، فالغضب يفقد القوة العاقلة التحكم والسيطرة على قرارات وتصرفات الإنسان ،ويمنح القوة الحيوانية السيطرة والتحكم ، ما قد يدفع بالإنسان إلي القيام بتصرفات طائشة وعدوانية ..!!
من أجل ذلك كلما كان الإنسان يمتلك القدرة على كبح جماح غضبه والتصرف بحلم وهدوء في المواقف الصعبة كلما تجنب الوقوع في السلبية والعدائية ، وكلما كان أكثر قدرة على الابداع والعطاء الحضاري ، فالحضارة والتحضر من الأمور المرتبطة بالقوة العاقلة ، فكلما كانت القوة العاقلة هي الحاضرة والمسيطرة على العلاقات بين البشر ، كلما كانت فرصتهم كبيرة في تحقيق المزيد من المنجزات الحضارية والعكس صحيح ، وكانت وما تزال وستظل القوة الحيوانية ( غير العاقلة ) هي معول هدم وتدمير الحضارات البشرية في كل زمان ومكان ، فالإنسان عندما تكون القوة العاقلة هي الحاضرة في حياته وتفكيره وتصرفاته تظهر عليه ملامح الإنسانية والمدنية والإيجابية ، وعندما تكون القوة الحيوانية هي الحاضرة تظهر عليه ملامح التوحش والسلبية والحيوانية ، فالإنسان هو حيوان بدون شك لكنه حيوان عاقل ومفكر وناطق ، وهو ما يميزه عن بقية الحيوانات ، وبتلك المميزات تمكن من بناء وتشييد الحضارات والعمران ، وبفقدانه لتلك المميزات لا يختلف كثيرا عن الحيوانات الأخرى ، قال تعالى (( أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون )) ، فالإنسان عندما يفقد قوته العاقلة وتسيطر عليه القوة الحيوانية يصبح كالحيوان بل أكثر ضلالا ووحشية وعدوانية ، من أجل ذلك كانت ولا تزال وستظل القوة العاقلة هي طريق الخير والصلاح والرشاد والفضيلة والتطور والتقدم الحضاري ، والطريق نحو بناء علاقات إنسانية وأخوية إيجابية ، والطريق نحو التنافس الإنساني والفكري والحضاري الإيجابي ..!!
-->