من المعلوم بأن نزعة الهيمنة والتسلط من النوازع السلبية الموجودة في النفس البشرية ، لذلك جاءت الأديان السماوية بالعديد من التشريعات التي تحاول كبح جماح هذه النزعة لما لها من آثار كارثية ومأساوية على حياة البشر ، كما أن العديد من الفلاسفة والمفكرين قد عملوا على صياغة العديد من الأفكار والنظريات والقوانين التي تسعى إلى ضبط هذه النزعة والحد من إفرازاتها السلبية ، ورغم كل ذلك إلا أن الأفراد وخصوصاً أصحاب القرار السياسي بمجرد حصولهم على فائض من القوة والثروة بجميع أنواعها ومسمياتها ، سرعان ما تسيطر هذه النزعة على كل أفكارهم ، وسرعان ما تظهر على تصرفاتهم وتحركاتهم شهية الهيمنة والتسلط على الآخرين ، وسرعان ما يصنعوا المبررات التي تجيز لهم تجاوز كل التشريعات والقوانين ، وتعفيهم من المساءلة القضائية والجزائية ، بل إن الكثير منهم يستغل فائض القوة والثروة في صناعة هالة من القداسة والبطولة حول نفسه ، ولتتحول جرائم الهيمنة والتسلط التي يرتكبها في حق الآخرين إلى بطولات وإنجازات وإنتصارات وحروب مقدسة ..!!
ولا تنمو وتكبر هذه النزعة السلبية إلا بحضور الفائض من القوة والثروة ، فهما الوسيلتان المحركتان لهذه النزعة ، وهما اللتان تدفعان بالإنسان إلى مسالك الغرور والطغيان ، لذلك يظل السعي لكسب المزيد منهما بأي وسيلة كانت هدفاً رئيسياً عند رواد وعشاق السلطة في كل زمان ومكان ، حتى لو كان ذلك على حساب معاناة ومآسي الآخرين ، بل وحتى نهب حقوقهم ومصادرة حرياتهم وصولاً إلى تشريدهم وحتى قتلهم وسفك دمائهم ، وفي حال غياب وإنعدام فائض القوة والثروة تظل هذه النزعة السلبية والعدوانية خامدة وساكنة وكامنة داخل النفس ، في انتظار الفرصة المناسبة ، ومهما حاول الإنسان إخفاء هذه النزعة والظهور بمظهر الخير والقناعة والتقوى ، إلا أن سلوكياته وتصرفاته سرعان ما تفضح أمره ، فالطمع في حقوق وممتلكات الآخرين ومحاولة نهبها والاستيلاء عليها ، ومصادرة حرياتهم وتكميم أفواههم ، والإحتيال عليهم وغشهم واستغلال حاجاتهم ، وفرض رأيه ورؤيته ومعتقده ومذهبه عليهم ، كلها تكشف نزعة الهيمنة والتسلط بداخله ، حتى وإن كان متستراً بإسم الدين ورافعاً شعار الفضيلة ..!!
فكم سجل لنا التاريخ من أحداث ومواقف مختلفة للهيمنة والتسلط كان أبطالها رجال دين كذباً وزوراً واستغلالاً لتحقيق مآربهم وٱشباع نزعة الهيمنة والتسلط بداخلهم ، وهناك القليل من النماذج البشرية الذين استخدموا فائض القوة والثروة لديهم في جوانب الخير وإحقاق الحق وإظهار العدل ورفع الظلم عن المظلومين ، والحفاظ على حقوق الناس وممتلكاتهم وصون حرياتهم ، وأهم مصدر يمنح الأفراد المزيد من فائض القوة والثروة هي السلطة والحكم ، وخصوصاً السلطة الفردية الملكية ، والتي تمنح الحاكم الفرد وحاشيته الفائض الكبير من القوة والثروة ، وتجعلهم يهيمنون ويتسلطون على حياة أفراد الشعب بشكل غير محدود ، لذلك ابتكر الفكر السياسي البشري النظرية الديمقراطية ، التي تحد من صلاحيات الحكام وتضبط نزعة الهيمنة والتسلط لديهم وتزمن فترة بقائهم في السلطة وتحكم تصرفاتهم بالقوانين واللوائح والرقابة والشراكة وحق المعارضة وحماية الحقوق والحريات ، ولتجعل من الشعب رقيباً عليهم بيده سلطة مساءلتهم وتغييرهم ، ولن أبالغ إذا قلت بأن النظرية الديمقراطية قد تمكنت من السيطرة بشكل ملحوظ على نزعة الهيمنة والتسلط الفردي ، فالقرار فيها جماعي وشوروي بعكس الحال في نظام الحكم الفردي ..!!
عموماً نزعة الهيمنة والتسلط موجودة داخل كل نفس بشرية ، وفائض القوة والثروة هو الذي يطلق لها العنان ، والعجز في القوة والثروة يصيبها بالسكون والجمود ، وهذا لا يمنع أن يُظهر الإنسان هذه النزعة على أقرب الناس إليه ، وما يكبح جماحها ويحد من عنفوانها هو التقوى لله تعالى والحكمة والعقل والرضا والخيرية ، والسعداء في الدنيا والآخرة هم الذين يمتلكون القدرة على كبح جماح هذه النزعة في كل أحوالهم وظروفهم ، فلا يغريهم فائض قوة أو ثروة في الهيمنة والتسلط على الآخرين ، والحكماء والعظماء والصالحين هم الذين يستخدمونها في طريق الخير والإيجابية ..!!
-->