استشراف الآتي "اليمن بين جناية التاريخ، وغواية الإيديولوجيا"

د. عبدالله صلاح
الأحد ، ١٧ أغسطس ٢٠١٤ الساعة ٠٩:٠٢ مساءً
 
إنه التاريخ، في حركته الدائبة والمتناقضة، وخطابه المضلل والمأزوم، وتحولاته الغامضة والفظيعة، ومفارقاته الغريبة والعجيبة، وصفحاته المدونة بالدم ولغة الحروب والخراب، الكاشفة عن حقد الإنسان، وقبحه وبغضه وطغيانه وانتقامه، في كل عصر ومجتمع.  
 
إنه التاريخ الذي لا أحد يتعلم من عذاباته ومآسيه، كما يقول هيجل: "إن أبرز درس من دروس التاريخ أنه لا أحد يتعلم منه". أو كما يقول ماركس: "التاريخ يعيد نفسه في شكل مأساة أو ملهاة". ورؤية ماركس ما هي إلا نتاج طبيعي لعدم تمثل رؤية هيجل الأولى، فعدم الاستفادة أو التعلم من دروس التاريخ وتكاليفه الباهظة -الناتجة عن غرور الإنسان واستبداده- يؤدي بداهةً إلى إعادة التاريخ نفسه في شكل مأساة أو ملهاة.
 
صحيح، يجب ألا ننخدع بتلك الصفحات، وما تحتويه من فكر أو عقيدة أو سرد تاريخي؛ لأن التاريخ في الغالب يجهل ما يعانيه البسطاء والفقراء والمسحوقين من ظلم وفساد وحرمان، ويعتني أكثر بالحكام والسلاطين، ويدون انتصاراتهم ومجالسهم ومحاسنهم، فإذا خرج أحدٌ من الشعب على الحاكم وصفه التاريخ بالناكث للعهد، والمفارق للجماعة، والممزق للأمة. ومثل ذلك إذا خرجت جماعة أو طائفة وُصفت بالمارقة والمُفسدة في الأرض. 
 
وعند قراءة تاريخ اليمن القديم والحديث، نجد أنه لا يشذ عن هذه القاعدة، فمكوناته وأفكاره وأزماته وانتصاراته وهزائمه تعيد إنتاج نفسها بين فينة وأخرى، غير آبهة بناموس العظة والعبرة. وهو ما جعل شعور الإنسان اليمني ووعيه في صراع وتحد مستمرين مع مسوغات ذاكرة التاريخ المخيفة. تلك الذاكرة التي تتكررُ في صور ومشاهد يغلب عليها التوتر والتمزق والعدوان والبشاعة. 
 
وفي إمكاننا مقاربة بعض ملامح التاريخ الحديث، وخاصة تاريخ ما قبل وما بعد ثورة سبتمبر (1962م)، حيث تعد حادثة مقتل الإمام يحيى (1948م) أول حركة سياسية دموية في العصر الحديث في اليمن، تقودها عصبة من العلماء والأدباء والمثقفين، بتخطيط وتوجيه وتعاون مع رجل الدين الإخواني الجزائري (الفضيل الورتلاني) مبعوث الإمام حسن البنا إلى اليمن، الذي دخله تحت يافطة النشاط التجاري. وكان هذا الفعل الدموي نتاج إيحاءات إيديولوجية بذرها الفضيل ورعاها وشارك في حصادها. بدليل أن جريدة الإخوان المسلمين في مصر في عددها يوم (21 فبراير عام 1948) وصفت الإمام الجديد عبد الله الوزير بالتقي والعالم والفقيه. بالإضافة إلى تعيين مهندس الحركة (الفضيل الورتلاني) أول مستشار عام للدولة، كما طُلب من مؤسس حركة الإخوان (حسن البنا) أن يكون مستشاراً عاماً للحكومة. 
 
لقد كانت ثورة أو بالأصح حركة (48م) عنيفة ودموية، تفاجأ بأسلوبها وآلية تنفيذها كثيرٌ ممن انضوى تحت لوائها، إذ كان المخطط يقضي بتفجير الموقف عقب حصول الوفاة الطبيعية للإمام يحيى بن حميد الدين الطاعن في السن، وليس اغتياله وتصفيته مع مرافقيه وأركان حكمه. وقد أدى ذلك الفعل العنيف الذي يتنافى مع طبيعة الشعب اليمني وعاداته وأعرافه إلى سقوط الحركة مبكراً، وسقوط روادها ورموزها ما بين ذبيح وسجين.
 
ومما أسهم في تعجيل السقوط استجابة القبائل لمظلومية الشيخ القتيل وعقيرته التي رفعها ابنه وولي عهده الإمام أحمد، الذي نجا من شراك المخطط نفسه، إذ كان يفترض اغتياله في طريق عودته من تعز إلى الحديدة. 
 
ربما كان ذلك المشهد الأول في تاريخ اليمن الحديث، الذي يلقى فيه الحاكم السياسي حتفه بدافع إيديولوجي له طموح ومشروع سياسي. وربما يتشابه المشهد ذاته كثيراً مع مشهد حادثة مسجد النهدين (2011م)، ومحاولة تصفية قيادة الدولة. فكما خُطط لقتل الإمام وولي عهده القوي خُطط أيضاً لقتل الرئيس صالح وكبار قادة دولته، وبدافع متناغم أو موحد من حيث المرجعية أو المدرسة العقدية والفكرية. 
 
إن ما يحدث اليوم من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية سريعة وخطيرة، ما هو إلا إعادة إنتاج تاريخٍ اسودَّ وجهه جداً، بفعل الصراعات والتحالفات والارتهانات، وتداخل العلاقات بين أقطاب السياسة والقبيلة والعقيدة المذهبية.  
 
لقد ظننا أن مرور ما يقارب نصف قرن يكفي لإماتة فكرة (الدولة الزيدية) التي حكمت اليمن قروناً من الزمن، خاصة بعد تحالف التيار السياسي والقبلي لعقود، واستماتته في سبيل القضاء على نظام الأئمة وتراثه. ولا أعتقد أن أحداً من المثقفين أو المفكرين أو المحللين السياسيين في الثمانينيات أو التسعينيات خطر على باله إمكانية إحياء الإمامة من جديد. ولكن ولادة حركة الحوثي وانتصاراتها الساحقة في السنوات الأخيرة لم يعد إحياء الفكرة فحسب، وإنما عزز مشاعر إمكانية تسيدها وبلوغها الحكم بقوة في الأمد المنظور؛ لتوافر مسوغات ومعطيات تزودها بطاقة الاستمرار، وتغذي سيرها الحثيث بحوافز غير باهظة الثمن.                             
 
ومن البين أن هذه المسوغات والمعطيات قد تعاظمت في ظل مجريات الأحداث، التي تشغل اللحظة الزمنية الراهنة، وخاصة ما خلفته ثورات الجحيم العربي، وما ارتبط بها من أسباب وبواعث قاتلة.  ولعل في مقدورنا –بعد قراءة تلك المعطيات- التنبؤ بإمكانية تشكيل خارطة سياسية جديدة في اليمن، تعتمد في رسمها بالدرجة الأساس على المرجعية الأيديولوجية الحية، وما تصوغه من أفكار وقناعات ونشاطات تبارك ثقافة الإقصاء والكراهية والعدوان والقتل. 
 
ولا شك في أن ما أحرزته حركة الحوثي من انتصارات توحي بالاحترافية، وتوافر الرغبة في المزيد من التضحية والتمدد، تنبئ باستطاعة الحركة تأسيس جغرافية سياسية تقع قريباً تحت نفوذها وبدون منازع. هذه الجغرافية أو الخارطة السياسية يمكن أن تضم كلاً من المحافظات التالية (صعدة، وعمران، والجوف، والمحويت، وحجة، وذمار، والحديدة). بينما في المقابل سيكون في استطاعة القاعدة أو الحركة الداعشية الاستيلاء على حيز جغرافي تستطيع من خلاله بناء خارطة سياسية خاصة بها، تشمل كلاً من المحافظات التالية (حضرموت، وشبوة، وأبين، والبيضاء). 
 
وتنبغي الإشارة إلى أن هذا التنبؤ لم يقم على التكهن أو ضرب الرمل، وإنما له حيثيات ومسوغات واقعية وتاريخية وسياسية واجتماعية تسند عملية بنائه واعتماده بثقة. فعلى سبيل المثال، هناك معطيات ومسوغات تهب شرعية التمدد لحركة الحوثي، وتكسبها الرضا والانتصار. فعلى مستوى المسوغ التاريخي نجد أن المحافظات التي تشغل خارطته السياسية المحتملة -باستثناء الحديدة- هي من الناحية المذهبية تدين تاريخياً، ولقرون زمنية طويلة لأصول المذهب الزيدي وفكره وثقافته وفقهه المعتدل، وهو ما تنتمي إليه حركة الحوثي. ولا شك في أن السياقات التاريخية والاجتماعية المختلفة لها قدرة فاعلة في تشكيل قناعات الناس، وتوجيههم وتلوين طباعهم وإرادتهم. 
 
بالإضافة إلى أن النظر في أحداث التاريخ، وتحولاته وسننه المهيمنة، يفيد في معرفة طبيعة المجتمع وحركته، إذ أن عملية بناء ذاكرة التاريخ تتكئ على ثقافة المجتمع وعاداته وأخلاقه، وقيمه الاجتماعية والدينية والسياسية، فهي من أهم عوامل بناء قواعده وقوانينه التي يحتج بها. وعلى الرغم من كثافة النشاط الذي زاولته الحركة الوهابية والإخوانية خلال عقود من الزمن، إلا أنها لم تمكنهما من تغيير النمط العام للبيئة الزيدية على نحو خطير ومؤثر. فليس من السهل إلغاء فكر مجتمع يتجاوز عمره عشرة قرون من الزمن.
 
أما من الناحية السياسية، فالغلبة في هذه المحافظات لحزب المؤتمر الشعبي العام، وخلال دورات انتخابية متعددة نادراً ما يفوز واحدٌ من الأحزاب الأخرى. وهو ما يعني أن ولاء غالبية الناس سياسياً في هذه المحافظات يحتم الاختلاف والصراع مع الأحزاب والجماعات التي سعت في عام (2011م) للانقضاض على حكم حزب المؤتمر، وتآمرت وما تزال على قتل زعيمه ورئيسه. ولذلك، لا إشكالية أو لا تحسس لدى الناس من الرضا والقبول بالحركة الحوثية والسماح لها بالتمدد. ولاسيما في حال إحساس قواعد وأنصار حزب المؤتمر بخفوت دور الحزب، وعجزه عن مواجهة الحركات المتطرفة التي تستهدف قواعده ورموزه بالإقصاء والقتل والتننكيل. أي إن الحوثي سيكون لهم بمثابة الملاذ الآمن أو المنقذ لهم من قبح تلك الحركات وعنفها. 
 
وأما من الناحية الاجتماعية فإن أنصار الحركة الحوثية يتمتعون بالنشاط والفاعلية الاجتماعية والمرونة والإيثار والتضحية، ويجتهدون في توفير الأمن ورد الحقوق، والقضاء على عصابات السرق والفساد، وحل قضايا الثأر. وهو ما يحلم به الإنسان اليمني في مختلف المحافظات. وأهم ما يخدمهم في هذا المجال استشعار الناس القلق والتوجس من ممارسات الجماعات الإرهابية، التي تتنافى مع إنسانية الإنسان، والخوف من تمددها وزحفها على محافظاتهم. ولعل المشهد الأخير لذبح (14) من الجنود على يد عناصر من حركة داعش التكفيرية، أو مشاهد سابقة كمجزرتي السبعين ومستشفى العرضي من العوامل التي  ستدفع الناس حتماً إلى القبول بالحوثي؛ لإنقاذهم وتأمين حياتهم من الذبح والسلخ. وخاصة في لحظة الشعور بضعف الدولة، وعدم استطاعة جيشها توقيف جرائم تلك الجماعات الإرهابية.  
 
ومن المعطيات الكثيرة التي تهيئ الطريق أمام الحركة الحوثية للسيطرة على المحافظات السالفة الذكر، استفادة الحركة من التناقضات السياسية لبعض الجماعات الدينية والأحزاب السياسية، وفجورها في الخصومة، وسوء خطابها مع الآخر، وفشلها في الحكم، وإمعانها في تجويع الشعب وتعذيبه، من خلال إقرارها للجرع القاتلة. 
 
بالإضافة إلى اشتغال الحركة على خاصية هامة جداً، وهي صناعة الشخصية، وتوجيه المريدين والأنصار إلى الإيمان المطلق بالشخصية القيادية، ووجوب احترامها وتبجيلها على نحو مبالغ فيه. فشخصية القائد تتسم عندهم بالنبوغ والعبقرية والإعجاز وربما العصمة. 
 
ومن الملاحظ أنها في طريق بنائها لشخصية السيد عبد الملك تخطو خطى حزب الله وصناعته لشخصية السيد حسن نصر الله، ولنا النظر في ما تحظى به هذه الشخصية من قبول واحترام وتقديس عند جمهور حزب الله، واستعدادهم التام لتقديم النفس والأهل والمال فداء للسيد. ومن المؤكد أن عملية بناء الثقة بالشخصية والارتباط بها ثقافياً وفكرياً ونفسياً، يوجب التبعية والتقليد، وإنزال أقوال القائد وأفعاله منزلة النص المقدس. كيف لا وهو قائد المسيرة القرآنية الظافرة؟. 
 
وما بناء القبة الخضراء على مؤسس الحركة السيد حسين بدر الدين الحوثي إلا وسيلة من وسائل إكساب شخصية المؤسس مظاهر الفرادة والنباهة والقداسة والإجلال؛ لتصبح مزاراً للأنصار فتتملكهم روابط شعورية وذهنية وعقائدية، وكأن هذه الشخصية من عالم آخر أو من طينة أخرى.  ومن المعلوم أن بلوغ أية شخصية قيادية هذه المنزلة، يمكنها الحض على الإقدام والتضحية.
 
وأما على مستوى المعطيات الخارجية، فإن الحركة ترتبط بمشروع الممانعة والمقاومة الذي تتولاه دولة إيران الإسلامية، ومن المعلوم أن إيران لا تبخل على حلفائها ولا تفرط فيهم، ولولا دورها وتدخلها المباشر في سوريا لسقط نظام بشار الأسد في الأشهر الأولى من الأزمة.
 
وبناء عليه، فإن الحركة الحوثية باعتبارها حركة اجتماعية وسياسية ودينية وعسكرية ليست شراً محضاً أو خيراً محضاً فلها محاسن ولها مساوئ على حد سواء، والزمن القريب كفيل بإخصاب الحركة وتهذيبها أو انحرافها وإلحاقها في كشف الجماعات الإرهابية. 
 
وفي المقابل ثمة معطيات أخرى تهيئ الطريق لتأسيس دولة داعشية في محافظات (حضرموت، وشبوة، وأبين، والبيضاء). ومن هذه المعطيات ضخامة الحقد الدفين الذي يعتمل في ضمائر بعض الجماعات الدينية السنية المتشددة على جماعة الحوثي؛ باعتبارها حركة مجوسية ورافضية ودم أنصارها مباح وحلال، فهم أخطر من اليهود والنصارى، وقتالهم وذبحهم قربة إلى الله. خاصة بعد أحداث دماج وحاشد وعمران وقناعتهم بتواطؤ الدولة معهم. الأمر الذي يجعل القاعدة أو حركة داعش تستميت في بناء خارطة سياسية خاصة بها، واستقطاع جغرافية موازية، تستطيع من خلالها تأسيس إمارة إسلامية تمكنها من الانطلاق، والتدريب والتأهيل لمواجهة الخطر المحدق بالإسلام من وجهة نظرهاـ؛ كون الحوثي –كما أشرنا- في عقيدة أنصارها أخطر من اليهود والنصارى. 
 
وثمة معطى آخر يشير إلى وجود حاضنة اجتماعية حقيقة للقاعدة، ساعدتها على التوغل في أوساط المجتمع، ومكنتها من حكم بعض المحافظات كـ (شبوة، وأبين، ورداع) لسنوات وأشهر، بسبب ضعف الدولة وغيابها وانشغالها بأحداث ما سمي بالربيع العربي. ولعل أهم عوامل اتساع تلك الحاضنة، معاناة الناس وفقرهم وخوفهم من التنكيل بهم، فضلاً عن ما تقدم القاعدة من إغراءات مادية، فما تنهبه من البنوك والمؤسسات توزعه بين الناس في المناطق التي تسيطر عليها بقوة السلاح، كما أعلن عن ذلك أحد أمراء الحرب الكبار في القاعدة.
 
ولو تأملنا قليلاً فيما يحدث في محافظة حضرموت، والسيطرة المتكررة على مدنها بسهولة، لرأينا أنه لولا الجيش وتضحياته لاستسلم أهالي حضرموت ورفعوا الألوية السوداء كرهاً وخوفاً وطمعاً. ولو افترضنا أيضاً اقتراب موعد انهيار الدولة، أو استمرار ضعفها وهوانها حتى تصبح غير قادرة على إمداد الجيش، وإسناده بما تتطلبه الحرب ضد القاعدة، فماذا سيكون؟. لا شك في أن تلك المحافظات ستسقط حتماً كما سقطت شمال العراق تحت يد داعش. 
 
ومن هنا، يتسع نفوذ القاعدة في محافظة حضرموت، وما محاولاتها الهجومية المتكررة إلا لترسيخ أقدامها أكثر في مدن المحافظة ووديانها وصحاريها، ليقينها المطلق بأهمية المحافظة، فهي تزخر بثروة بترولية وغازية تعلل نفسها بالسيطرة عليها، كما صنعت أخواتها في سوريا والعراق.
 
وأما محافظة البيضاء، فقد حدثني صديقي الأكاديمي -من أبناء قيفة، مديرية رداع- أن القاعدة تسيطر على أودية محكمة الإغلاق في أكثر من مديرية، وأنها تزاول فيها أنشطتها وتدريباتها القتالية، وتعد العدة ليوم لا ريب فيه. كما أنها تستخدم نفس طرائق حركة الحوثي وأساليبها في حل مشاكل الناس وتوفير الأمن. ويؤكد أنه في إمكانها السيطرة على مساحة واسعة من محافظة البيضاء لو أرادت دون مشقة. 
 
ومما سيساعد القاعدة على الانتصار أيضاً، ويمكنها من تأسيس إمارة إسلامية جديدة في تلك المحافظات، احتمال دخول مختلف الأحزاب السياسية والجماعات الدينية السنية تحت رأيتها، بما في ذلك السلف والإخوان؛ انتصاراً لهزائمهم في دماج وعمران، وانتقاماً لسيطرة الحركة الحوثية على صعدة وعمران والجوف وغيرها، ومحاولةً منها لبناء كيان قوي يقف في وجه نفوذ الحوثي وتمدده. وذلك كما حدث في العراق، إذ انضم جيش الشهيد الرئيس صدام حسين المنحل وألويته ذات المرجعية السنية إلى حركة داعش؛ لشفاء الصدور من الشيعة وحركاتها المتمكنة من السلطة والثروة في البلاد. ومثل ذلك نقول في الحراك الجنوبي المسلح في اليمن، إذ لا يستبعد انضمامه إلى حركة داعش، انتقاماً من جيش الشمال ودولته، التي يرى فيها الخصم المحتل للأرض والناهب للثروة. 
 
إنه من المؤلم جداً أن يحدث ذلك، وأن تتمكن القاعدة من السيطرة على محافظات مثل حضرموت والبيضاء، فمعظم أبناء هاتين المحافظتين أو نسبة كبيرة من أبنائها ينتمون إلى الصوفية ويتعبدون الله بطرائقها المختلفة، ولهم مساجد ومزارات وطقوس خاصة بهم. والصوفية عند القاعدة جماعة منحرفة وكافرة، ولها بدع وضلالات كثيرة لا بد من التخلص منها وإعلان التوبة. وهو ما يعني أننا مقبلون على نكبة حقيقية للصوفيين في حضرموت والبيضاء، على غرار نكبة المسيحيين واليزيديين في شمال العراق. 
 
كما أنه من المؤلم أيضاً أن نرى النظام السياسي في اليمن يعود بعنف إلى الوراء، بعد أن شهد مرحلة لا بأس بها اقترب فيها من الديمقراطية، ولا ندري إلى أية درجة سيبلغ الاستبداد المذهبي والعقائدي، حيث لا أشد من عصبية الدين والعقيدة والقبيلة. فالدولة الدينية تقوم على مبدأ النظرية الإلهية الناشئة على وفق حكمة الله وإرادته، والإيمان بهذه النظرية يؤثر في حركة التاريخ، ويجبر الإنسان على الاستسلام لعقيدة المذهب وفكره، الذي تتكئ عليه نظرية الحكم. بينما تقوم الدولة القبلية أو العشائرية على مبدأ النظرية الجغرافية التي تمنح سكانها القبليين مبادئ البطولة والتضحية والشراسة والتعصب للعرق والدم، وذلك بطبيعة التنشئة. 
 
خلاصة أن اليمن مقبل على نحو ما أشرنا، أي إنه سيكون رهينة الحركات والجماعات الدينية المنغلقة على ذاتها، والأكثر تعصباً وأشد عنفاً، حيث لا أفق لها ولا نظر. والإشكالية أن هذه الجماعات لا تحمل في مشروعها ما يخفف عن الناس معاناتهم، وينقذهم من الظلم والفساد والاستبداد، وإنما تحمل همَّ إرهاب الناس وسلب حرياتهم وهتك أعراضهم، وإجبارهم بالقوة على إتباع عقيدتهم وممارسة طقوسهم، ولو خربت البلاد وتمزقت الأمة. 
الحجر الصحفي في زمن الحوثي