المشروع الإيراني والرواية المتواترة لانهيار المشاريع العربية ( 3 )

د. عبدالله صلاح
الأحد ، ١٩ اكتوبر ٢٠١٤ الساعة ٠٧:١٨ مساءً

المشروع الإيراني والرواية المتواترة لانهيار المشاريع العربية ( 3 )

المشروع القومي

شعارٌ للاستهلاك والمزايدة

عند قراءة التاريخ الحديث لم نجد أية لحظة زمنية تنفست فيها الأمة العربية نفساً مشتركاً، سواء كان التنفس جغرافياً أم سياسياً أم عسكرياً أم اجتماعياً أم ثقافياً. وهو ما يعني أن الحديث عن وجود مشروع قومي أمرٌ يتطلب شيئاً من التأني والتحقيق.

لقد ارتبط المشروع القومي بأسماء بعض القادة السياسيين الذين حكموا بعض الأقطار العربية، إلا أنه لم يبلغ في أية مرحلة زمنية، أو في أي ظل سياسي غايته، من حيث إشباع النزعة القومية التي تؤمن بوحدة الهوية والمصير. بل إنه أصبح موضع اتهام عند كثير من المثقفين والمفكرين العرب، إذ حمَّلوه وزر تجزئة الأمة العربية وتفككها، وجعلوه سبباً من أسباب هوانها وضعفها في مختلف مجالات الحياة. وبالتالي فإن أي حديث عن مشروع قومي ما هو إلا نتاج الأوهام القومية، التي رسخَّها دعاة هذا المشروع، بغية استغلاله سياسياً، وتخدير عقول ومشاعر الجماهير العربية المتعطشة لهذا الحلم الكبير.

إنهم كثيرٌ من كتب عن هذا الوهم، وهناك كتاب بعنوان "عرب اليوم صناعة الأوهام القومية"، لمحيي الدين صبحي، عالج فيه كما يقول: الغلط والوهم في النظرية القومية التي مورست لم يكن مصيرها سوى الإخفاق الذريع. حيث أنتجت العكس، فبدلاً من الوحدة أنتجت كيانات مغلقة الحدود والأذهان والبصائر، وبدلاً من الديمقراطية أنتجت أشنع أنواع الفاشية والسلطة الغاشمة. وأضاف: إن الخطأ الأكبر في النظرية القومية أنها تأسست على وهم أن الأمة معطىً، وليست فرضية تتحقق بالتطور والممارسة. وإنما تُبنى لبنة لبنة بفضل الجهد المستمر. (ينظر ص17).

إنه يريد أن يقول: أن الحديث عن وجود مشروع قومي عربي، لمجرد توافر قواسم مشتركة، كالأرض واللغة والدين والثقافة لا يكفي الاعتماد عليها، من دون وجود إرادة ذاتية وعملية لها خطة ومنهج وأدوات فاعلة، نستطيع من خلالها بناء أمة موحدة وقوية. ومن الواضح أن ما نراه من تفكك للأمة، وضياع للهوية، ما هو إلا نتاج حتمي لغياب أو بالأصح لموت تلك الإرادة.

ولو تأملنا قليلاً في السياق التاريخي البعيد للهوية العربية، لوجدنا أن الوهم هو القاعدة الفعلية التي تتأسست عليها هوية الإنسان العربي. وتكفينا بعض مشاهد العهد الجاهلي، فالحروب البينية الطاحنة هي عنوان العهد. وكذلك ما شهده عهد الدولة الأموية من صراعات على وفق نزعات قبلية وعنصرية ودينية. بل أن الصورة تتجلى أكثر من الآلية العرقية والقبلية التي اعتمد عليها جند الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في أثناء تخطيط وبناء مدينتي البصرة والكوفة، إذ تدل هذه النزعة على فشل تكوين الإرادة الموحدة والمصالح المشتركة.                                                                                                                                                                        

لقد تأسس المشروع القومي الحديث على كتابات (ميشيل عفلق) في النصف الأول من القرن العشرين، وانطلق من تسليمه بوجود: (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة). حيث لعب تسليمه المطلق بهذه الفكرة القومية الأصيلة دوراً فاعلاً في مساندة الرئيس (جمال عبد الناصر) في عدوان (1956م). كما كان له دور فاعل في التهيئة لتحالف قطبي القومية (البعث والناصري)، والإعلان عن وحدة مصر مع سوريا. إلا أن فقدان الإرادة السياسية القومية الصادقة، وتخلف آليات العمل السياسي أديا إلى الانفصال من جديد.  أما ما حدث عام (1967م) من هزيمة نكراء –يسمونها نكسة- فقد أفرز حالات من التوجس والإحباط واليأس من جدوى الأمة العربية.

ثم تلت تلك الهزيمة أحداث فظيعة في ميدان القومية العربية، إذا كان تصرف الرئيس السادات الأحادي، وتوقيعه اتفاقية السلام مع العدو الصهيوني، وكذا انشطار حزب البعث في العراق وسوريا، بمثابة المسمار الأخير في نعش نظرية القومية العربية الحديثة. لتحل محلها نظرية (الأخوة الأعداء)، ويتحقق أن خارطة الأمة العربية مجزأة اليوم بإرادة سياسية عربية، وليست بفعل القوى الاستعمارية أو نتاج سياساتها فحسب. ولنا النظر في تاريخ القمم العربية في عهد الاستقلال، وما بلغته من فوضى ومهزلة تحت شعار القومية العربية.

إن أسوأ ما في الأمر، أن هذه المشاريع العربية بما فيها المشروع القومي، لم تستطع أن تكمل بعضها بعضا، أو أن تتحالف مع بعض. بل إن المفارقة الهزلية أنها تولت محاربة بعض وتشويه وقتل وأكل بعضها بعضاً كما تأكل النار نفسها. فعلى سبيل المثال، نجد أن المشاريع الإسلامية هي من تولت محاربة المشروع القومي، وشككت في نواياه، وثبطت من معنوياته بمختلف الوسائل. وثمة كتب ومؤلفات اعتنت خاصةً بتشويه المشروع القومي، على أنه انحراف عن الفكر الإسلامي الأصيل، وأن هدفه تضليل الأمة، بسبب ارتهانه وتمثله للثقافات الأجنبية الدخيلة والفاسدة. ويأتي في مقدمة تلك الكتب كتاب "حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي" للإمام محمد الغزالي. الذي تحدث في التمهيد عن خطورة الفوضى الفكرية والاجتماعية، التي أحدثها القوميون العرب. وأشار إلى أن القومية العربية استجابة صريحة للغزو الاستعماري. وبقدر ما كان يشكك في جدوى المشروع القومي ويهاجمه، على أنه يبعد الشريعة الإسلامية عن الحكم، كان في المقابل ينافح عن المشروع الإسلامي؛ باعتباره الوسيلة الوحيدة التي أحيت الأمة العربية وطمست جاهليتها.

وبناء عليه، فإن القومية العربية لم تكن ذات يوم مشروعاً على وفق المعنى المعلوم والصحيح للمصطلح، وإنما كانت شعاراً استهلاكياً بيد بعض الزعماء العرب، وأداة فاعلة من أدوات المزايدة باسمها؛ لإثارة شعور الجماهير وإرضاء شعوبهم. وربما كان وحده الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أحس الإنسان العربي بصدق ولائه لفكرة القومية العربية، من خلال ممارساته العملية وتضحياته الهائلة في اليمن والجزائر وغيرهما من البلدان العربية.

أما المشروع القومي المتمثل في (حزب البعث) العراقي، فسلبياته أكثر من إيجابياته، وكان سوء تقدير قادته السياسيين، وعنادهم المتعاقب من أهم الوسائل التي أدت إلى تقويضه مبكراً، بدءاً من فشله بتثبيت الوحدة مع سوريا، وتشريع باب الخصومة معها، واحتلاله الكويت. وبهذه التصرفات ساعد على تفكيك الأمة، وهيئ دخول العدو الأجنبي في المنطقة، وساهم بشكل كبير في انحسار المشروع القومي في المنطقة العربية، وتمدد حركة التيارات الإسلامية، التي أعادت سبب هزيمة الأمة العربية وتمزقها إلى الابتعاد عن روح الإسلام. ورأت أن المخرج يكمن رفع شعار (الإسلام هو الحل).

صحيح، إن حزب البعث الحاكم في عهد الرئيس صدام حسين، حاول طوال فترة حكمه التصدي للمشروع الإيراني، وإعاقته عن التمدد بقوة داخل دولة العراق، وخاصة في الجنوب، حيث غالبية السكان من الشيعة المواليين للمرجعيات الدينية في إيران. إلا أنها كانت إعاقة شكلية، سقطت بسقوط النظام. أي إنه فشل في بناء حواجز فكرية تمنع أبناء العراق من الارتماء في حضن المشاريع الأجنبية. 

إن من أبرز الإشكاليات التي تعاني منها الأمة العربية اليوم، هي إشكالية موت (عقيدة الانتماء)، فالواقع السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، يعاني من موت حقيقي لقيم العقيدة القومية، بسبب الصراعات السياسية البينية التي أخلت الأجواء للمنافسة بين المشاريع الإسلامية وأجنحتها الطائفية. إذ نجد غياباً كلياً للمشروع القومي العربي، على مدى أربعة عقود أو يزيد من الزمان.

لقد ظلت القضية الفلسطينية تحتضر وتموت ما يقارب قرناً من الزمان، ولم تحرك الجامعة العربية الحاضنة لهوية الأمة ساكناً. كما شاهدنا العراق يتمزق طائفياً وعرقياً لسنوات طويلة، ولم يحرك العرب ساكناً أيضاً. بل إننا نشاهد اليوم القومية العربية تنحر بعضها بعضا، عن طريق المؤامرات الداخلية لإشباع أنانية الحكام، أو لتحقيق أهداف ضيقة للدولة المفردة، أو الشعب المفرد على حساب شعوب الأمة الأخرى وهويتها الواحدة.

ومن هنا، فإن الأمة العربية اليوم بلا روح انتماء، كل قطر منها له همومه ومآسيه وظروفه وقضاياه الخاصة، لا يحس بها سواه. بل إن ما سواه  من الأقطار العربية يمعن في توسيعها وتعقيدها. وهو الأمر الذي أدى إلى فشل النهضة العربية، أو بالأصح فشل بناء (المشروع القومي). ولذلك، فإن أي حديث عن هذا المشروع، ما هو إلا مجرد وهم. فالمشروع الذي يتم الحديث عنه، لم يستطع تحرير فلسطين من احتلال الغاصب الصهيوني، كما لم يستطع مقاومة قوى الاستعمار في العراق. وكذا لم تكن لديه القدرة على تحرير الإنسان العربي من القهر والاستبداد السياسي. وكذا لم يحقق مبدأ العدالة الاجتماعية في أي قطر من الأقطار العربية.

وبناء عليه، فإنه من المؤكد حقيقة انهيار المشروع القومي العربي نهائياً، على فرضية وجود جذور له. وهل في اعتقاد أحد منكم اليوم أن الأمة العربية ستحقق الوحدة في الأمد المنظور، بعد أن تفرقت أيادي سبأ، وأصبحت جماعات وطوائف دينية ومذهبية تذبح نفسها في العراق وسوريا وليبيا واليمن. بل إن الضوء الوحيد في العالم العربي، وهو الوحدة اليمنية في حال مخاض عسير قد ينطفئ في أية لحظة.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي