هجرة الأصفياء وحملة الرسالة

عمار البذيجي
السبت ، ٣٠ يوليو ٢٠٢٢ الساعة ٠٥:٢٥ مساءً

 جميعنا ودون استثناء، نزعم أننا أصحاب رسالة، وندعي بأننا كنا ولانزال نحرق أنفسنا لأجل الأخرين، ونفني حياتنا من أجل الرسالة التي نؤمن بها، بل كثيرا ما نزعم أننا نعيش حالة نضال مقدس من أجل قضايانا ومعتقدانا ومجتمعاتنا وأوطاننا، بينما الحقيقة أن جميعنا باستثناء الخلصاء الأصفياء منا، حالنا كما قال الشاعر:

      وكل يدعي وصلا بليلي *** وليلى لاتقر لهم بذاكا 

 

ذلكم أن حمل الرسالة ليس إدعاء ولا وظيفة تشريفية، أو منصب نتباهى به، كما أنها ليست كأي وظيفة حياتية أخرى، أو مهمة تنفيذية يمكن للعامة القيام بها، بل ربما حتى لا يمكن لعامة خاصة الاضطلاع بوظيفة الرسالة وأدائها على الوجه الأمثل. بل هي وظيفة خواص الخواص، ومهمة شاقة، طويلة الأمد، وعالية الكلفة والمخاطرة، يخضع الذي يتصدر لحملها لمخاض عسير، وتمحيص شديد، ويقضي كل عمره في رحلة شاقة اشبه بالميلاد أو الإنتقال من حياة لحياة أخرى. 

 فالرسائل الحياتية عموما، والعظيمة منها خصوصا، لا يمكن للمرء التشبع بإدعاء حملها، أو امتلاك أهلية القيام بها كما يجب مالم يمر بهجرة حقيقية كاملة، هجرة بين عالمين، هجرة مادية وروحية وفكرية ومجتمعية، هجرة شعورية وسلوكية وعملية طويلة الامد ومستمرة تبدأ بالتخلي وتنتهي بالتحلي. 

 بهذا المعنى، ووفق هذه التصور كانت هجره ابراهيم الخليل عليه السلام " قال إني مهاجر إلى ربي سيهدين" وبذات المعنى والتمثل الدقيق كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم سابقة لهجرته من مكة إلى المدينة، بل سابقة حتى لبعثته، وعلى نهج هجرته هاجر اصحابه رضوان الله عليهم، فعاشوا حياتهم في الإسلام كلها هجرة دائمة ومتواصلة، هجرة عميقة  المضمون واسعة النطاق تتجاوز الانتقال المكاني او تغيير المجتمع الذي يعيشون فيه إلى هجرة التخلي والتحلي: 

 لقد هاجروا عن دين ومعتقدات  وقيم أبائهم وأجدادهم إلى دين وإيمان وعقيدة جديدة، ثم هاجروا بذلك الدين وتلكم العقيدة والرسالة هجرة متواصلة حتى الممات إلى أصقاع الأرض، بل هاجروا في سبيلها من أنفسهم وأموالهم وحياتهم كلها. 

 كما أن هجرة لم تكن عن ديارهم وأهلهم وحسب بل هجرة عن مفاهيم وتقاليد المجتمع والعصبية والدم، روابط الأسرة والعائلة والإبن والأب والأخ الشقيق إلى مجتمع ومفاهيم وروابط ووشائج وعلاقات جديدة ومختلفة كليا، بل والانقلاب على الماضي وخوض معارك دامية في مواجهته. 

 وما كانت هجرتهم تلك لتنجح لولا أنهم هاجروا قبلها وفيها ومعها عن رغباتهم وشهواتم وعن كل صنوف المتع والنعيم والراحة والأنس والسلام والأمن والمال والتجارة والأعمال، هجرة عن الذكريات والعواطف والأمنيات والأحلام والاهتمامات إلى أمنيات وأهتمامات وأحلام جديدة كليا.

   لقد كانت هجرتهم عظيمة بعظمة الرسالة التي هاجروا لأجلها، هجرة عن المكان والزمان، عن الماضي والحاضر والمستقبل. هجرة أشبه بالانسلاخ التام، هجرة من ذات لذات أخرى، هجرة بالشعور والروح والبدن. 

ومع ذلك كله، ورغم عجزنا عن أن نهاجر هجرتهم، إلا أنه العجز الذي لاتسقط معه المسئولية، فالعجز عن حمل رسالة عظيمة لاتعفينا أفردا ومجتمعات عن مسئولياتنا وواجباتنا لأداء ماهو بين أيدينا من مهام ووظائف حياتية مهمة، والقيام برسائل جزئية متفرقة، في أنفسنا، وعائلاتنا، ومجتمعنا، ومؤسساتنا، أقلها مسئولية حشد الطاقات ومراكمة الجوهد وتنميتها، تمهيدا لقيام الرسالات العظيمة، وإسهاما في التأسيس لها، فنكون شركاء مؤسسين فيها، أو شركاء مساهمين لحملتها. 

    عام أمنياتكم وأحلامكم ... وسنة خصب ونماء بإذن الله

الحجر الصحفي في زمن الحوثي