د. ياسر هاشم الهياجي// فلسفة الاغتراب في التراث الشعبي

كتب
الأحد ، ٠٧ نوفمبر ٢٠٢١ الساعة ١١:٤٠ مساءً

الاغتراب عن الأوطان ظاهرة أزلية صاحبت وجود الإنسان على هذه الأرض منذ القدم، من تحركات جماعية قديمة إلى هجرات بدافع الارتزاق والكسب أو لأسباب أخرى سياسية أو تجارية أو سياحية كما هي عليه اليوم، والهجرة سواءً كانت قديمة أو حديثة داخلية كانت أم خارجية قد تكون عبارة عن تنقلات تلقائية عفوية أو منظمة. ذكر صاحب معجم (تاج العروس) أن مفهوم الاغتراب يعود إلى التغرب بمعنى البُعد، وورد في (لسان العرب) أن التغرُب هو النفي عن البلد. كما ورد مفهوم الاغتراب في مقاربات كثيرة ضمن رؤى باحثي العصر الحديث، فمنها ما يعود إلى الانفصال المعرفي عن كيانات أو عناصر مهيمنة على الحياة، ومنها ما يعود إلى الانتقال المكاني وانعدام مغزى الحياة، أو الانفصال الذي ينشأ بين الفرد وبيئته الاجتماعية. أما الغربة فقد جاءت في اللغة بمعنى النوى والبُعد، تغرَّب: ابتعد وفارق، والغريب البعيد عن وطنه، والغربة في الاصطلاح هو الخروج عن الديار وترك الأحبّة أو النزوح وترك الوطن. بمعنى أن الغربة هي الشعور بالبعد المكاني عن الوطن الذي يفصل الإنسان عن مجتمعه ومحيطه الاجتماعي وعالمه الذي يألفه. فالغربة هي الغياب المؤقت متمثلة بغياب الشمس وظهورها على سبيل المثال، وهي ترك الأوطان والأحبة، وقد يكون غيابًا مؤقتًا وليس غيابًا أبديا.

ولأن التراث هو مرآة المجتمعات، ويلعب دور محوري في التعبير عن قضايا المجتمع وظواهره، فقد كان للاغتراب –كظاهرة اجتماعية- حضور بارز في وجدان التراث الشعبي، إذ استطاع التراث اظهار ما تضمره هواجس النفس واستنطاق الوعي الشعبي واستقطار الروح في كثيرٍ من المعاني والأبعاد إزاء معاناة الرجل والمرأة -على حدٍ سواء- الناجمة من الترحال ومرارة الحرمان وهموم الغربة وانعدام التواصل مع الأحباب. لقد كان التراث أصيلاً، بالغ الصدق في التعبير واستنطاق خلجات النفوس الحزينة، ضمنّها في شِعرٍ سهل وقوافي منوّعة وأوزان مختلفة، تُفهم من عفوية القريض النابع من البيئة والظروف الاجتماعية واللغوية للناس، وكان لها تأثير في واقع الغناء، فكانت الغربة أول الشدو الذي تُطرب له كل أُذن وتنسكب له كل دمع.

أمسيت اناجي القمر والناس جَمعْه() رقودْ ادعي لربي وأقول ايحين() حبيبي شِعود() كتبت لك ألف خط() ولا وصلني جواب والقلب من فرقته خلّى حياتي عذاب بالله عليك وامسافر لا لقيت الحبيب بلِّغ سلامي إليه وقل له كم شاتغيب تجولتُ بين عدد من المهاجل والأهازيج التراثية التي شكّلت بدايات الأغنية الشعبية بسجعها ولحنها وتأثيرها، وقد جسدّت المرأة في هذه الأغاني مأساة الاغتراب في حقبة مهمة، وكان للتراث نصيبٌ في حفظ بعض خلجات النساء اللاتي قاسين الحب والفراق بعيدًا عما كان محرمًا ومُعيب.

إن معايشة تجربة الغربة وضياع الذات وموت الأماني، جعل التراث يحكي عن تجارب مشبعة بالمرارة والألم والفُقد، وعلى هذا النحو يسير معبراً بتميز ووضوح وتناغم منفرد عن كثير من المعاني الداخلية التي لا نستطيع أن نجافيها أو أن نخفي حقيقتها. غريب غريب عاد الغريب يَدُق بابْ تحت التُراب ولا بُعاد الأحبابْ هجرتني والهجر صوب قتَّالْ لكنني شصبر ومنْ صبر نالْ ويوم الارتحال عن بلده وأهله وذاته، نجد التراث حاضراً على لسان المحبوبة الوفيّة التي تذرف الدموع، ولسانها يلهج له بالدعاء بالسلامة بما يخفف انكسار النفس ووحشة الروح وأوجاع الاغتراب وبُعد المسير.

خِلّي سَرَح ودّعتْ به السلامة ودّعتْ به مُسيِّر الغمامة لقد حمل التراث أبعادًا ودلالات واسعة، وهو يُعبِّر عن الوعي الشعبي في فهم معاني الهجرة الداخلية إلى عدن  في وقتٍ من الأوقات، حين تقاطر الناس على تلك المدينة المسالمة من كل حدبٍ وصوب بحثاً عن عمل يجلب لهم الحياة والأمل: ساروا عدن وفلّتوا الغواني وأني من الجملة وهذا بياني أين جا الرسول ينزل عدن يُبشِّرْ أن البلاد ممطور والبُن مُزهِرْ

نزل عدن يشقي على كروشُه قل له يرد يلعن أبو قُروشُه لقد توالت أغاني المرأة المحملة بالأنين والحنين والأشواق، فمع هجرة اليمن يين الى دول  الخليج  العربي في سبعينات القرن الماضي، فتحت الغربة للمرأة الشكوى وسكب العبرات وما تعانيه من قلق الأشواق ولوعة الفراق. أرض الحجاز هَدّوك بالمجارِف() شدوا الشباب وسيبوا() المكالف زَلّوا() الرياض وسافروا لجُدّه قل للحبيب كم له سنين ومُدّه يا سارح  البحرين  رهنت حولك

لا قاضي جَوّز لك ولا رضو أهلك يا سارح البحرين سبر بمهرين تغيب سنين واني تقول لي شهرين يأهل الرياض يجعل لكم قنابل برد الشتاء ما ينفعه كنابل() أهل الرياض يعطروا الدقامة يومين ثلاث قالوا مع السلامة من شار() بالغربة ومن تقلد الله يُشهِّر() به أمة محمد يا ناس دُلوهم على الجوازات يكفي حبيبي كم لقي هيانات وهذه تناجي حبيبها المغترب، وهي تتألم نفسيا إزاء غربته في مشاعر تبدو متداخلة ومعقدة تتدحرج بين الحاجة للمال والحنين للمحبوب فينتصر الحنين وشدة الاشتياق على المال الزائل:

شاقي المدن ما اشتي ولا فلوسك اشتيك() تُروِّح للبلاد شأشوفك كتبت لك مكتوب بخط فاهم أشتي وصولك لعن أبو الدراهم ما شاش صدارة لو ترسلي ألفين أشتي وصولك لو تصل بقرشين كتبت لك مكتوب بدم حيّاتْ اشتي الوصول نعنبوا الجنيهاتْ وهو ما جسده الشاعر الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) في قصيدة "وامُفارق" التي غناها فنان اليمن أيوب طارش، حين قال: لا تردوا الرسائل ما تُطفي الورق نارْ

والنقود ما تُسلّي من معه في الهوى شأن وفي موضع آخر لأيوب يناجي فيها المغترب على لسان المحبوب في اغنيته "ارجع لحولك": ماشاش() مكتوبك ولا الصدارة اشتيك تعود حتى ولو زيارة قد دمعي ترّك في الخدود أمارة والوحدة زادت بالقليب أشجان غبني على عمري جرى سنينه أما الفؤاد قد زاد به حنينه ليتك تعود تشفيه من أنينه وينجلي همي ونصلح الشأن

كما جسد التراث صوت المرأة العاشقة التي تعيش رهينة العادات، وهي تنادي على عدن خاطفة الرجال وهي لا تعلم إن كان سيعود منها أو لن يعود: عدن عدن سلّط لك البوارقْ كم من عزب بداخلك غارقْ لك الحريق يا دكة الخواجة كم من شباب صاروا بلا زواجة لقد كانت الهجرة قاسية على المرأة، قسوة الفراق على القلوب فقد يشدُّ أحدهم الرحال بعد أيامٍ قليلة من الزواج، وقد يعود أو لا يعود.. غائب سنين قالوا السنة وصولُه

الله يصيب من كان سبب رحيلُه كم أذكره في سمرته ومقيله يوم السفر كان الهوى دليلُه في محتوى التراث كثيرٌ من مرارة الشكوى والظلم والصبر، خاصةً إذا كانت المرأة في أول سنين شبابها وغاب عنها زوجها بعد فترة قليلة من زواجهما، فتتوحد في مكانها بل ويتوحد المكان مع ذكرياته، وبكل ما تحمله هذه الصورة من ألمٍ نفسي عميق فقد جسدّ الدكتور سلطان الصُريمي بعضاً من هذه المشاعر وحديث الذكريات في قصيدة "مسعود هجر" التي غنّاها عندليب تعز عبدالباسط عبسي، على لسان "مسعود" الذي يودِّع محبوبته الوداع الأخير تحت وطأة الظروف " قِلّة المصروف وكثرة الدَيْن ":

شفارقك بعد الزواج بأسبوعْ العين تدمع والفؤاد موجوعْ شَذَّكر الحِنأ وحُمرة الخدّ شَذَّكر الزفة واليد باليدّ وفي صورة أخرى من صور الحنين واشتداد الحاجة والمحن، تستحضر المرأة النجوم والطيور والسماء والريح وساعي البريد لتناديهم حتى يوصلون شكواها لزوجها الغائب. ياذي النجوم كوني اشهدي بحبي وخبِّري المحبوب ما وقع بي ساجي العيون إرحم لحالي إرحم أنت المُقلّد بي وأنت تأثم

كتبت لك مكتوب قدُوه من الضيقْ الخط من دمعي والغراء من الريقْ كتبت لك مكتوب نقاشه صيني نُصُه مداد ونُصُه دموع عيوني كتبت لك مكتوب بالسبعة الأقلام خمسة سلام واثنين ردود الأعلام أمانتك ياذا الطَبَل() تقُل لُه وخبِّرهُ بما جرى لِخِلُه ومن العدين يالله بريح جلّاب وإلا سحاب تُندي علوم الأحباب لقد عبّر التراث عن حال المرأة وهي تناجي ذلك المرتحل الذي يُمنيّها بالوعود الزائفة، فمع حلول الأعياد والمناسبات كانت تنتظر وصول زوجها فتخذله الظروف، وتمنعه عن العودة وانهاء قسوة الفراق في كلماتٍ مشحونة بالمشاعر متأججة بالعواطف المحتدمة بالاخفاق والخيبة.

جُمعة وراء جُمعة، وعيد وراء عيدْ حُبيّبي زّلّجتني() مواعيد ثلاث سنين والرابعة شْتِغلِّقْ قلبي على المحبوب يحن مُشوِّق ورغم كل العادات التي ضيّقت الخناق، إلّا أن التراث فتح أمامنا مجاهل لم نكن نتوقع أن يرتادها أحد من قبل في معاني ومغازي تُستلهم من حياة الناس على تعدد بيئاتهم واختلاف فئاتهم. يا نجم يا سامر فوق العراقي قل للحبيب لا هو شيجي نُلاقي اليوم خميس كُلٍ مَعه حبيبه

وأني معي شوقي لمِن أجيبه؟! يوم الخميس يا ناس واني لحالي القلب مبلي والوصال غالي اليوم خميس كُلٍ حزَب وعيّد واني بحبك واحبيب مقيّد ليلة خميس غبني على شبابي والخِل غايب ما درى عذابي ليلة خميس، يا مسلمين، لحالي لا زارني خلي ولا رثى لي وفي مشهد تصويري رائع، والمرأة العاشقة الصابرة في جلسة سمر مع صويحباتها، يُخيل لها صوت محبوبها يصل إلى أذنها، فتفزّ صائحةً بهن أن يُسكتن لتسمع نداء حبيبها:

أصه اسكتوا صوت بالنقيل داعي لاهو الحبيب شأمُد له ذراعي لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل أن التراث حاول أن يتعمق في الأفئدة ويتغلغل في حنايا الصدور ويختزل معه الزمان والمكان: يا مسلمين يا كُربتي وضيقي يا أهل المحبّة نَفِّسوا طريقي وامسلمين قولوا لمن تغرَّبْ سافر وخلاني لمن مُسيَّبْ ليت الحبيب يَشُلّني بجَيبُه يا فرحتي شاكون سَلَى قُليبُه ضوّى الصباح والشمس إلى عيوني

خِلّي بخير والناس يُفجِّعوني ماناش هدر قولوا لخلي الزينْ يغيب على الخاطر ما غاب على العينْ هجرتني هجر المقارم السودْ هجر السحايب للشذاب والعودْ لقد تعددت أغاني المرأة الريفية في الهجرة وتنوعت مراميها ومرارة الشكوى فيها من المقيم الصابر الى الغائب الحاضر في القلب: ألفين سلام يسرح مع السحائبْ إلى الذي خلف الجبال غائبْ الدمع سالْ وجرحين خُدودي

من الغياب قا ذِبلين ورودي غربه عذاب طال العذاب وربي مافيش معي غير إحتراق قلبي هذه صور واسعة من صور التراث الشعبي الذي يرصد الذاكرة الشعبية، ذاكرة المكنونات الداخلية للمجتمع الذي عانى كثيرا من الهجرة والاغتراب، وعبّرت عن حقيقة عواطف الناس ومشاعرهم، تنبض بالصدق والجمال والوجع الذي يصل الى حدّ الاحتضار في إطار الأدب الشعبي ورحابة الواقع الاجتماعي الذي باح بخلجات الصدور والنار الملتهبة التي أكلت سنين العمر.

وإذا ما اقتربنا من الأمثال –كواحدة من ألوان التراث الشعبي- فأننا سنجد الكثير منها تتحدث في أصل الاغتراب، فـ«الغُربة كُرْبَة»، و «القفا جفاء»، و «خبز الوطن ولا كعك الغربة»، و «عزّ القبيلي بلادَهْ ولوْ تجرّع وباها» والمثل بدلالته الواضحة يؤكد على أن العز الحقيقي للإنسان هو وطنه، مهما كان العيش به صعباً، أو مهما عانى به من شظف العيش. والمثل من جملة أقوال حكيم اليمن علي ولد زايد حين قال: عزّ القبيلي بلادَهْ ولوْ تجرّع وباها ... يشدّ منها بلا ريشْ ولا اكتسى ريشْ جاها. وقالوا: جسمي معي غير أن الروح عندكمُ فالروح في غربةٍ والجسمُ في الوطنِ.

لقد تعمقت ظاهرة الاغتراب في الوعي الجمعي  لفترة طويلة ولا تزال الدروب تأخذنا بعيدًا عن الأحباب والأماكن ومراتع الصبا وعزاء أهلنا وجنازات الأقارب، ذلك أن الاغتراب له سكاكينه في كل زمانٍ ومكان بما يحمله من المعاناة وفرط الألم، يحوّل حياة من يعيش تجربته إلى ضربِ من القلق والاضطراب وعدم الاستقرار النفسي. ولا نزال إلى اليوم نستدعي التراث ليقف في وجه القهر الذي تسببه الغربة ولوعة الحرمان متأرجحين بين الخوف من العودة وبين الإحساس بالحزن الدائم.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي