الاستبداد السياسي

د. عبدالقوي القدسي
الجمعة ، ٢٤ يناير ٢٠٢٠ الساعة ١١:٠٢ صباحاً

 

لدى كل إنسان استعدادات للخير والشر، والعدل والظلم، والتواضع والكبر، والصدق والكذب، وكل صفة محمودة أو مذمومة.

تضيق أو تتسع مساحة الاستبداد بضيق أو اتساع مساحة السلطة الممنوحة، وفي الثقافة الإسلامية فإن الحاكم هو أول الناس مسؤولية .

الاستبداد السياسي لا ينشأ في فراغ، إنه يخرج من أرض مهيئة للقبول به، والذي خَبُث لا يخرج إلا نكداً، ويترعرع، ويَقْوى عوده، ويشتد ساعده في بيئة الجهل، والسذاجة .

استخف فرعون بقومه فأطاعوه، فوصفهم الله بقوله: " إنهم كانوا قوماً فاسقين " (الزخرف:54) . لقد استحقوا وصف الفسق بجدارة، والسؤال هنا : إذا كان الفاسق- كما جاء في معجم المعاني الجامع : هو كل من فعل حراماً أو ترك واجبًا ، فما الحرام الذي ارتكبه هؤلاء القوم ؟ وما الواجب الذي تركوه ؟!

والشعب لو كان حياً ما استخف به فردٌ ... ولا عاث في أرجائه الظالم النَّهِم.[ الزبيري]

في الحكم الوراثي يبدأ الاستبداد من يوم تنصيب الحاكم الجديد، فليس للأمة في تنصيبه نصيب، وليس لها إلى خلعه سبيل، وفي الأنظمة الجمهورية، يبدأ الاستبداد من لحظة تزوير إرادة الجماهير!!

اعتقدت طائفة من العرب بالجن فزادوهم رهقاً، واعتقدت بعض الشعوب بالمستبدين، فزادوهم عنَتاً.

الاكتفاء بمشاهدة الأحداث دون صناعتها، أو البحث عن السلامة في زوايا الحياة الهانئة الهينة، دون الطموح إلى نَيْل عليائها، يطيل من أمد الاستبداد، ويمد في حياة الطُّغاة. يقول ابو بكر الصديق (رضي الله عنه) وهو يقرأ قول الله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "(المائدة: 105) : إنكم تقرؤون هذه الآية، وإني سمعت رسول الله(ﷺ) يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" .[أخرجه الترمذي].

على الأمة أن تبتكر من الإجراءات العملية ما يكفل ردع الظالم عن ظلمه، ويحفظ كيانها من الاضطراب، ويمنع أصحاب الأهواء من تفسير الظلم بحسب أهوائهم .

ما يراه البعض ظلماً قد يكون هو العدل بعينه ؛ ولذلك فوضعُ الدساتير والقوانين، والمذكرات التفسيرية لتلك القوانين ، ومنح السلطة لمؤسسات المجتمع كالمجالس النيابية، والنيابة، والقضاء يتيح للناس مراقبة الحاكم ومساءلته، وتقويمه وفقاً للقانون، وليس وفقاً للهوى . يقول أبو سعيد الخدري (رضي الله عنه) سمعت رسول الله (ﷺ) يقول :"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " [أخرجه مسلم]. وأي منكر أكبر من الاستبداد؟!!!

حديث :" من رأى منكم منكراً.." يضع الجميع في دائرة المسؤولية فيصبح بذلك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ثقافة مجتمعية، وهذا كفيل بحفظ نظام الأمة، وحمايتها من جميع أشكال الاستبداد .

الكثير من الزعماء يصلون إلى الحكم بانقلابات، أو ثورات أو انتخابات شكلية، فهم لذلك ينتهجون طريق الاستبداد!!

ما إن يصل حاكمٌ إلى السلطة حتى تتوجه إليه الأنظار، ويُهرَع إليه المتزلفون، ويتغنَّى بأوصافه الإعلام، ويدعو له الخطباء، وتعزف له الموسيقى . وهنا تبدأ لديه نوازع الاستبداد !!

ألم يكن التلفزيون الرسمي للجمهوريات والممالك، والسلطنات العربية يبثّ تحركان الزعامات لساعات؟!

الكاميرا تلتقط صور الزعيم إذا تحرك أو أشار بيده، وإذا ابتسم ، أو فتح باب سيارته، تلتقط صوره، وهو يتحدث إلى عجوز أو شيخ ٍكبير أو يُقَبّل طفلاً!!

إنه الرئيس الملهم، والزعيم الإنسان، ملك الإنسانية، سلطان القلوب ، شيخ البلاد، أمير المؤمنين!!

كيف لا يستبد إنسان، والكل يهتف له : بالروح، بالدم نفديك ؟!!

كيف لا يستبد إنسان، وهو يرى فقهاء الدستور والقانون يُفصلون مواد الدستور والقانون على مقياسه ، ووفقاً لهواه ؟!!!

لو كان الحاكم حافظاً للقرآن والسنة، والتوراة والإنجيل، وجميع الكتب السماوية، والدساتير الأرضية، ولديه سلطة مطلقة لكانت النتيجة هي الفساد، والاستبداد ، وقد قيل : " السلطة المطلقة مفسدة مطلقة ".

أصبح الحاكم في البلاد المحترمة مجرد موظف، يحزم حقيبته في نهاية ولايته،يعود إلى منزله، أويبحث له عن شقة للإيجار يقضي فيها بقية عمره، ويتفرغ لكتابة مذكراته !!

كم عدد الزعماء العرب الذين قدمتهم شعوبهم للمحاكمة والمساءلة حتى الآن ؟ وكم عدد الزعماء العرب الذين غادروا السلطة سلمياً، وليس إلى السجن أو القبر؟!!!

في 20 يناير من العام 2017م نُصّب دونالد ترامب رئيساً لأمريكا، وحضر التنصيب أربعة رؤساء سابقين وهم : جورج بوش الأب، وجورج بوش الابن، وبيل كلينتون ، وباراك أوباما، وتخلف -بسبب مرضه- جيمي كارتر. خمسة رؤساء لا يزالون على قيد الحياة..هل لمثل هذا مثيل في بلداننا ؟!!!

الزعماء في البلدان المتحضرة يبذلون قصارى جهدهم لإرضاء جماهيرهم، والحفاظ على مصالح بلدانهم ، وتصرفاتهم -دائماً-تحت المجهر. بينما يظل المواطن في البلاد المتخلفة خائفاً يترقب، والحيطان لها آذان، كما يقال في الأمثال !!

حوكم الرئيس الفرنسي جاك شيراك2011 في قضية وظائف وهمية لمعاونين سياسيين من حزبه، وحكمت المحكمة عليه بالسجن لمدة سنتين ، وجاء في منطوق الحكم : لقد خرق جاك شيراك واجب النزاهة المطلوب من قبل المسؤولين العاملين في الحقل العام، وذلك على حساب المصلحة العامة " .

وفي أمريكا يُحاكم الرئيس ترامب بتهمة إساءة استخدام السلطة، وعرقلة عمل الكونجرس، كما حوكم من قبله الرئيس بيل كلينتون بتهمة الحِنث باليمين؛ نتيجة لعلاقة جنسية جَمعته مع المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي . فهل سيفكر الحاكم بالاستبداد، والحال هذه؟!!!

في ظل نظام الاستبداد يكثر المتزلفون ، وتتعطل التنمية، ويتوقف الإبداع ، وينزوي الحق، ويتبجح الباطل، ويؤتمن الخائن، ويُخوّن الأمين، ويتطاول الجهلاء ويتقاصر العلماء ، وفي ظل الاستبداد تُصبح السجون عامرة، والمقابر مزدهرة !!

العالم المصري، فاروق الباز، مدير معهد أبحاث الفضاء في أمريكا، ظل يتردد بين مكتب الرئيس، ووزير التعليم العالي، بعد نيْله درجة الدكتوراه سنة 1965 من أمريكا، بحثاً عن وظيفة في مجال تخصصه(الجيولوجيا) ، ولكنه يصل إلى درجة الإحباط-كما يحكي عن نفسه. لقد ظل يلهث خلف السراب لأشهر عديدة، وما استطاع اللقاء بوزير التعليم، ناهيك عن السيد الرئيس !!! وفي المقابل رحبت به أمريكا، ومنحته الجنسية، وأصبح من كبار علمائها!!

فاروق الباز واحد من آلاف العقول المهاجرة التي اضطرت إلى ترك أوطانها الظالم أهلها، بحثاً عن أرض لا يُظلم فيها أحد، فانظروا ماذا يصنع الاستبداد؟!!

الاستبداد عدوٌ للدين، عدوٌ للنجاح، عدو للعلم، عدوٌ للجمال، عدوٌ للإنسانية، لا يؤمن بنهضة، ولا تستقيم في ظله حضارة 

الحجر الصحفي في زمن الحوثي