إشكالية رؤية الحداثة

د. عبدالله صلاح
الأحد ، ٢٠ يوليو ٢٠١٤ الساعة ١٠:١٠ صباحاً
 
إن من أهم إشكاليات المثقف العربي ضبابية الرؤية لمفهوم الحداثة وإدراجها في دائرة الزمن ومقاييسه لا دائرة المعرفة وقيمها، ولذلك فهو يؤمن بها حيناً ويكفر بها أحايين أخرى، يقدسها ويلعنها في الوقت نفسه، يسير على أثرها ولا يقر برؤيتها ... رؤية القيمة لا رؤية اللحظة الزمنية، رؤية المعرفة بالشيء لا التعريف به، رؤية السير مع الالتفات لا الالتفات من دون سير، أو السير من دون التفات، هذه الرؤية/ القيمة هي جوهر الحداثة، ولكن المثقف العربي -فيما يظهر- لا يتفاعل مع هذه القيمة بفعل متزن يصرف عنه مبدأ التشظي واللاوعي .
 
إن الحداثة في أبسط تعريف لها أسلوب في التفكير، أسلوب في التعايش مع الآخر وقبوله، كيفية في التعاطي مع إفرازات العصر دون معرفة هويتها أو مصدر انبعاثها، هي كما يرى المفكر العربي محمد عابد الجابري الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه المعاصرة، أي مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي (كتاب التراث والحداثة ص15، 16).
 
 ومن هنا فإن الحداثة قيمة لا تقبل الوصف الفردي، ولا تُدمغ بطابع معين أو هوية محددة، أي: إنها انجاز غير قابل للتأطير، والقول بأنها منجز  غربي بحت وهمٌ يعشش في ذهنية كثير من المثقفين العرب. إنها قيمة إنسانية جذورها في كل الحضارات، وعندما نقف ملياً على رصيدنا التراثي سنجد مواقف متعددة تجسد روح الحداثة في أوج صورها، ولنتأمل قليلاً في موقف الرسول محمد (صلّ الله عليه وعلى آله وسلم) مع معاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن ونمط أسلوبه في الحوار، واحترامه دور العقل في التعامل مع معطيات الحياة "اجتهد رأيي" ، فهذا الموقف يعد قيمة حداثية فذة. وكذلك موقفه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وطريقة تعاطيه عند كتابة وثيقة العهد بينه وبين المشركين.
 
زد على ذلك إكباره للعلم والمعرفة وحرصه على التوجيه وحثه على العلم والتعلم والتدبر في الأشياء. ومثل ذلك جرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقرر من على المنبر -موضع الخطاب الديني والمعرفي بشكل عام- خطأه وإصابة امرأة "أخطأ عمر وأصابت امرأة"، ويصدق القول ذاته على فلسفة الإمام الشافعي "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، أو قوله: "ما ناظرت أحداً إلا وتمنيت أن يظهر الله الحق على يديه"، هذه القيم الحداثية الواعية -وسواها كثيرٌ- تجلجل في تراثنا العربي، لكن المثقف العربي اليوم لا يمتثل في الغالب إلا لقول الآخر وفكره وفلسفته بوصفه رائد العصر ومنتج الفكر والمعرفة آنياً، وهو لا يدري أنه يتجاهل مخزوناً معرفياً هائلاً تشع إشاراته بمفاهيم الحداثة وموجهاتها.
إن الحداثة الغربية ما جاءت إلا بعد خوض معارك عنيفة من أجل التنوير وإعلاء شأن الفكر، جاءت -كما في ظاهرها- من أجل الإنسان وكيف يستطيع أن يصنع نفسه وتاريخه، إنها إفراز لأنظمة ثقافية مختلفة (اجتماعية واقتصادية وسياسية وفلسفية) لكنها في جملتها تستهدف الإنسان, هذه رؤية الحداثة من منظور معرفي وفلسفي ونقدي، سواء خرجت من تحت كوفية غربية أم من تحت جلباب/ قميص عربي..... إذن أين إشكالية الرؤية؟!. 
 
لا شك في أن السياق التاريخي يسهم بشكل كبير في تشكيل ملامح اللحظة الآنية (معرفياً، وسياسياً, واجتماعياً واقتصادياً.....)، والوقوف على السياق التاريخي العربي القريب وقراءة أنساقه المختلفة يعكس ضموراً بيناً في مختلف عناصره ومكوناته، وقد أدرك المثقف العربي في لحظة زمنية معينة مدى عزلته وجهله وتخلفه عن ركب الحضارة الإنسانية المعاصرة، وحينها بدأ في صراعه من أجل التحرر، وإيقاف حالة التدهور الشاملة، ولكن ذاته المتشظية، وذهنيته المشوشة أفضتا إلى وجود تكتلات ما أنزل الله بها من سلطان، وتحولت على إثرها قيم المعرفة والتحرر والرغبة في الانعتاق من الراهن وصوره إلى مبادئ ترسي ثقافة الشك والتوجس والتربص بالأخر في إطار الهوية العربية، وإلى اتخاذ مواقف عدائية قطعية مع الآخر/ الأجنبي  وهويته، ولنا النظر في بداية مرحلة ما سمي عصر النهضة، حيث بدت محاولات جادة لتحديث الذهنية العربية، رفع شعارها الطهطاوي، ومحمد عبده، ونقولا فياض، وسلامة موسى، وعلي عبد الرازق، وقاسم أمين، وطه حسين,وسواهم ممن حاولوا البحث عن شرعية مستقبل الإنسان العربي، واستنطاق الذات والبحث عن الجدة وإعادة النظر في إنتاجية الخطاب المعرفي والسياسي والاجتماعي، لكن ردة الفعل كانت عنيفة ومتطرفة ارتفعت خلالها شعارات غير متساوقة مع ظروف الواقع وتحولاته الجوهرية، وبدأنا نسمع مشروع :"القومية العربية"، والمشروع"التقدمي الماركسي" والمشروع "الإسلامي"،  وكلها شعارات تعيد تقزم الأمة من جديد، وتجعلها تفكر من وراء جدر، وتعيش على هامش الوجود.
 
كانت تلك اللحظة الزمنية الفيصل في تشريح -أو في أقل تقدير- تشتيت الذهنية العربية، وبدأت تعيش حالة من التوجس من الذات والآخر معاً، وهذا ما تتبدى صوره من إنتاجية المثقف العربي، ليس على مستوى الفكر والمعرفة، ولكن على مستوى السلوك والتطبيق. (يتبع)
الحجر الصحفي في زمن الحوثي