إنه العقل الخرب

د. عبدالله صلاح
الأحد ، ١٣ يوليو ٢٠١٤ الساعة ٠٦:٥٦ صباحاً
 
لا يمكن أن أنسى موقفاً جدلياً حدث في نادي جدة الأدبي والثقافي، بعد مداخلة حول إشكاليات الواقع العربي، أشرت فيها إلى أن عدو الإنسان العربي هو (عقله)، وأن هذا العقل مصدر تلك الإشكاليات وصانع كل الأزمات الساحقة التي تحيق بالأمة. ولعل السبب يرجع إلى أن المستعمر الجديد قد استطاع بأدواته ومؤسساته وتقنياته الحديثة استهداف العقل العربي وإضعافه وتجهيله. أي إنه قد أفلح في إفراغ العقل العربي من المعرفة وتمكن من إعطاب ملكة التفكير والتأمل والبحث فيه. كما تمكن من شحنه بالعنف والعصبية والتوجس من الآخر، ليس التوجس منه فحسب، ولكن التوجس من أبناء جلدته وديانته ممن يختلف معهم في الرأي أو المذهب أو التوجه السياسي.
 
لقد كان سبب الاعتراض أو الموقف الجدلي أن صاحبنا يرى أن الإشكالية لا تكمن في العقل وإنما في البعد عن الدين ونهج السلف الصالح، الأمر الذي ساقني مبكراً إلى المرونة والابتسامة في وجهه، والانسحاب بهدوء خشية الوقوع في المحذور، خاصة وأن نبرة الحديث بدأت تميل نحو التشكيك في العقيدة. 
 
المهم أني ما زلت مصراً على رأيي، وهو أن (العقل الخرب) للإنسان العربي هو سبب كل ما نحن فيه من تخلف وحروب وكوارث، فحينما ننظر في سياقات هذا الواقع المأسوي نصاب بالحيرة والدهشة والجنون، ونتساءل، لماذا كل هذا العذاب والخراب؟، ولماذا ندمر بيوتنا بأيدينا؟ ولماذا نمجد ثقافة الموت والكراهية والحقد والإلغاء ونكره ثقافة الحياة والحب والتصالح والحوار والتعايش؟، وعلى ماذا نتقاتل ونسفك دماء بعض؟!!. أسئلة تتوالى، ولكننا في نهاية كل سؤال أو تفكير نعجز عن الإجابة لهول ما نراه.
 
إن ما يحدث اليوم في الأمة هو نتاج خلل في العقل العربي جعلها تحتفي بالعصبية الدينية، وهي أخطر من العصبية القبلية، لاعتقاد أصحابها بأن السير في هذا الطريق يؤدي إلى الجنة ومجاورة الرسول فيها. لقد تشكلت بسبب ذلك الخلل قناعات لا يقبل التشكيك فيها؛ ولذا مهما حاولت أن تحاور أو ترد هؤلاء إلى الصواب فإنك تبوء بالفشل الذريع، لأمرين اثنين: الأمر الأول: يتعلق بالجهل بالآخر، فليس في أذهان هؤلاء شيء عن خصومهم الافتراضيين من الجماعة أو الجماعات الأخرى التي يختلفون معها، سوى ما يسمعونه من مشايخهم أو يقرأونه من كتبهم فقط، على أنها جماعات أو أحزاب منحرفة وكافرة وأخطر من اليهود والنصارى، سواء تعلق الأمر بالأفراد أم بالجماعة في كيانها الكلي. وهناك مئات بل آلاف الأدلة على هذا الأمر، ولكننا سنأخذ مثالاً واحداً للتدليل فقط، وهو قضية مقتل المفكر العربي (فرج فوده)، حيث كان في عهده صراع محتدم في مصر بين التيار العلماني والتيارات الدينية. وقد شنت عليه جبهة علماء الأزهر حملة شنعاء كفروه فيها وأعلنوا وجوب قلته. وقتل فعلاً عام (1992م) وبعد إلقاء القبض على قاتله وقُدم للقضاء سئل عن الدافع وراء قتله لفوده، فأجاب بأنه كافر. فقال له القاضي: وكيف حكمت عليه بالكفر؟، قال: من كتبه، فسأله القاضي، هل قرأت له شيئاً من كتبه؟، فأجاب: لا. 
 
هكذا استجاب القاتل لفتوى شيوخه، لجهله ووجود خلل في عقله، وإلا لوقف ملياً يتأمل ويقرأ فكر الرجل وكتبه، ومن ثم يحكم عليه. إنه الجهل بالآخر وعدم توافر الرغبة أو الاستعداد لسماعه أو قراءته، فضلاً عن الجلوس إليه ومحاورته. 
 
الأمر الثاني: هو التوجس من الآخر والنفور منه، فالآخر حتماً في اعتقاده سيء ورجس وسببٌ من أسباب الغواية والهلاك. وكيف له أن يكون غير ذلك، أو يطمئن إليه وهو في ذهنه أخطر من اليهود والنصارى؟!!. 
 
وإذا ما أسقطنا هذين الأمرين على ما يحدث هنا في اليمن، سنجد أن (القاعدة) تحل دماء الجيش والأبرياء في كل مكان باعتبارهم كفرة ويستوجب عليهم التوبة وإعلان البراءة من اليهود والنصارى. وكذلك (الإخوان) فهم يؤمنون إيماناً قاطعاً بأن الحوثيين روافض ومجوس وعملاء لإيران. وكذا (الحوثيون) يؤمنون بأن الإخوان دواعش وتكفيريون وعملاء لأمريكا ينفذون سياستها في المنطقة ليس إلا. ولا يوجد لدى أحد من هذه الجماعات أدنى رغبة للسماع من الآخر أو الجلوس معه أو قراءة نتاجه الفكري والثقافي، أو التحاور معه.
 
إذن، كيف نستطيع أن نتعايش في هذا المجتمع، ومكوناته الدينية والسياسية تؤمن بهذه الثقافة وتصر على توريثها للأبناء والأجيال وتستميت في ترسيخ جذورها؛ لتصبح مصدراً مضموناً لحروب وكوارث سيعاني منها أبناء الشعب عقوداً من الزمن إن لم تكن قروناً. إنه لا أمل لنا بالتنفس والحياة بأمان وحرية وكرامة في اليمن وفي كل شعوب الوطن العربي ما لم نحرر عقولنا من الجهل بالآخر والتوجس منه. وضرورة الإيمان بحتمية الاختلاف مع الآخر والقبول به والتعايش معه فلكل إيجابياته وسلبياته فالجميع بشرٌ وليس أحدٌ من الملائكة مطلقاً. 
الحجر الصحفي في زمن الحوثي