حربُ مشاريع

د. عبدالله صلاح
الأحد ، ٢٢ يونيو ٢٠١٤ الساعة ٠٣:١٥ مساءً
 
إن آفة اليمنيين الأساسية هي الجهل، ومنها تناسلت آفات كثيرة لا تقل في خطورتها عن الآفة الأم. ولعل من أهم الآفات المتناسلة آفة التعصب للرأي أو الجماعة أو القبيلة والاستسلام للأهواء والميول السياسية والعقدية، ومن ثم التهور في أثناء التعاطي مع الأحداث النازلة بالمجتمع، فلا وجود للتحري عند سماع ونقل الأخبار أو عند قراءة مجريات الأحداث. 
 
لقد أفضت تلك الآفات إلى صعوبة تبيان طبيعة العلاقة بين مكونات المجتمع، فلكل مكون سياقاته الثقافية الخاصة وآلياته التي يعتمد عليها في جداله مع الآخر والتصادم معه. وليس منها آليات أو أساليب الإقناع أو الحوار على وفق سنة الاختلاف وحتميتها. وهو أمر طبيعي ينتج بسبب حالات التمترس والانزواء ضمن دوائر مغلقة، لكل دائرة –كما أشرنا- أفكارها وسلوكياتها وتاريخها ورواياتها الخاصة المبالغ فيها حد الخرافة والأسطورة.
 
إن غياب التحري وإتباع الرغبات والتصورات المستقلة عن الهوية الوطنية، وكذا إهمال المعايير العلمية والموضوعية في تناول الأحداث قد أورثت حالات من الغباء، أفقدت عامة الناس الصواب، وغيبت عنهم رؤية وجوب العدالة والمساواة بين مكونات المجتمع المختلفة، بل أفقدتهم عناصر النظر والتحليل والتأمل. وهو ما يتبدى لنا من صفحات التاريخ المعاصر، فكثير من الناس يجهل أن ما يحدث اليوم ما هو إلا صراع أو حرب مشاريع تعود بداياتها إلى فترة الستينيات، أي بعد قيام ثورة سبتمبر (1962م). 
 
لقد أصبح من المعلوم أن ما أفرزته ثورة سبتمبر من تحول في النظام السياسي وحلول النظام الجمهوري بدلاً عن النظام الملكي لم يتحقق بالحسم العسكري، وإنما بالتوافق السياسي. حيث أفضى ذلك التوافق إلى استحداث أو تأسيس مشاريع سياسية جديدة، لكل مشروع ثقافته ومؤسساته وظروفه تكوينه المميزة له عن غيره من المشاريع. وقد حرص كل مشروع على بذل الجهد والسعي الحثيث لإثبات وجوده في الواقع السياسي والمجتمعي، بل إن من هذه المشاريع من حاول ممارسة الهيمنة ضد الآخر والتأسيس لمستقبل يكون فيه الفرعون أو الإمبراطور. 
 
لقد وقع الصراع والحرب بعد قيام ثورة سبتمبر بين ثلاثة مشاريع، المشروع الأول هو مشروع الثورة في نطاقها العسكري الممتد من أول رئيس للجمهورية (السلال)، والمار بالرئيسين (الحمدي والغشمي) والمنتهي بالرئيسين (علي عبد الله صالح وعلي محسن الأحمر). وإطلاق مصطلح الرئيسين هنا لقناعة أؤمن بها بأن صلاحيات (علي محسن) في الواقع العملي كانت أكثر من صلاحيات الرئيس (صالح) لثقته به وخطورته ودهائه، إذ أصبح أكثر حضوراً في المشهد السياسي والديني والقبلي لنجاحه في استقطاب مشايخ القبائل وعلماء الدين ومنظمات المجتمع المدني والجماعات المتطرفة وإغداق الأموال عليهم وتمكينهم من الوظائف المدنية والعسكرية، حتى كان في مقدروه أن يرفع من يشاء ويحط من يشاء في عالم السياسة والقبيلة والجماعة، بينما الرئيس (صالح) اكتفى في الفترة الأخيرة من حكمه بالتمثيل السياسي فقط.  
 
أما المشروع الثاني فهو المشروع الملكي المتوغل في مفاصل الدولة شأنه شأن المشروع العسكري. ويتجلى هذا المشروع في حزبي (اتحاد القوى الشعبية والحق) وشخصيات سياسية وأمنية كبيرة منزوية سراً في زوايا المشروع الأول (العسكري), ولكنه انفرد مؤخراً بعناوينه وخطاباته الخاصة وبرزت شخصيته أكثر بظهور الحركة (الحوثية). 
 
 أما المشروع الثالث فهو المشروع القبلي الذي حمل لواءه واستفرد بقيادته لعقود من الزمن الشيخ (عبد الله بن حسين الأحمر). ومن الملاحظ تباين العلاقات وتلون التحالفات بين تلك المشاريع على وفق طبيعة الأحداث، وإن تحددت في الغالب على مبدأ الانتهازية والاستغلال والمصالح الذاتية والآنية. وبسبب ذلك توالدت الأزمات وتكاثرت وأنتجت كثيراً من الحروب والتصفيات كما وقع مع الرئيس الحمدي رائد المشروع العسكري في حينه الذي حاول أن يطيح بالمشروع القبلي نهائياً، دون وعي منه أو سوء تقدير لقوة ذلك المشروع وشراسته وعنفه وعمق ارتباطاته المحلية والخارجية، وقد أدى سوء تقديره إلى أن تكون خاتمة حياته على يد المشروع القبلي المتحالف سراً مع أجنحة داخل المشروع العسكري نفسه. 
 
لقد استطاع تحالف المشروعين (القبلي والعسكري) بعد اغتيال الشهيد الحمدي من تقليل دور المشروع الثالث/ الإمامي والحد من فاعليته في الحياة السياسية تدريجياً، وقد استمر التحالف العسكري القبلي على نحو متين إلى وفاة رائد المشروع القبلي (عبد الله الأحمر). ولعله كان الدافع وراء لجوء المشروع الثالث إلى العمل بصمت واحترافية، والتحالف مع قوى داخلية كـ (الحزب الاشتراكي) -خاصة بعد قيام الوحدة (1990م)- ومع قوى خارجية كـ (إيران). واتسعت دائرته أكثر لتضيق بإعلان الحرب عليه عام (2004م)،  وتمتين التحالف العسكري القبلي من جديد.
 
المهم، لقد تنافست تلك المشاريع وتقاسمت البلاد وثرواتها ووظائفها العليا، وترتب عليها من الخسائر الاقتصادية والاجتماعية والعلمية ما لا يمكن تعويضه في عقود من الزمن، وذلك بسبب استفحال شهوة تلك المشاريع وتسابقها نحو الثراء غير المشروع. وهو ما دفع كل مشروع للتفكير في إزاحة الآخر. فكان المشروع العسكري الأخير الذي عمل برأسين (علي صالح وعلي محسن) تتنازعه بعض الخلافات ولكنها لم تصل حد التفريط. الأمر الذي أتاح له فرصة الإعداد أو التأسيس لفكرة التوريث، وهو ما أثار حفيظة أو أغضب ورثة المشروع القبلي المتحالف معه (أولاد عبد الله بن حسين)؛ لتكون بداية التوجس من بعض والتنافر والقطعية ومن ثم الحرب مع وقوف أولاد الأحمر إلى جانب ما سمي بالثورة، وتسخير كل إمكانياتهم وقدراتهم لا حباً فيها ولا إيماناً بحتميتها، ولكن تعويضاً عن الانكسار النفسي وانتقاماً واستماتة في سبيل تنزيل رأس النظام السابق من كرسي العرش، وإفشال مشروع التوريث الذي اعتبروه انتهاكاً لقواعد اللعب السياسي المعمول بها وتهديداً لمستقبلهم. 
 
وهكذا كتبت الأحداث الأخيرة فصلاً جديداً من تاريخ صراع المشاريع الثلاثة مع إحداث بعض التحولات وإضافة مشروع رابع، وهو مشروع الرئيس (هادي).
 
إن ما يحدث اليوم هو صراع أو بالأحرى حرب مشاريع تقليدية عمرها أكثر من نصف قرن، فالمشروع الحوثي ما هو إلا امتداد للمشروع الإمامي الذي أجبرته حروب السنوات السبع إلى التصالح مع المشروع الجمهوري، ولكن ذلك التصالح لم يقتل الرغبة أو التفكير في إعادة أمجاد قرون طويلة حكموا فيها اليمن، وكانوا الأسياد من دونهم. والمشروع الثاني هو مشروع الرئيس السابق (علي عبد الله صالح) وغايته ليست الوصول إلى السلطة مرة ثانية، بقدر ما هي محاولات جادة للحفاظ على كيان مشروع كان له حضور قوي، ولكنه استهدف وتتكرر المحاولات في سبيل إماتته، ولذا فهو يحاول استيعاب الضربات القوية التي تعرض لها، خشية السقوط تحت أقدام مشاريع جديدة تسعى لملئ الفراغ الذي خلفه. خاصة وأنه يستشعر نوعاً من التحالف بين المشروع القبلي الذي تلبسه (الإخوان) ومشروع الرئيس الجديد (عبد ربه هادي) الذي يتجلى اليوم بوضوح في تدخل المؤسسة العسكرية في الحرب الدائرة في عمران بين المشروع الحوثي/ الإمامي والمشروع القبلي الإخواني. وأعتقد أن تدخل المشروع الجديد (مشروع الرئيس هادي) في الحرب لصالح المشروع القبلي الإخوان لم يكن نتاج قناعات يؤمن بها (هادي) أو نتاج حرص وطني، وإنما هو استشعار متبادل لتحالف صالح مع المشروع الحوثي وخطورة تمدده وإمكانية وصوله إلى صنعاء وتهديد عرشه الذي يتربع عليه، ويأتي استشعار الرئيس هادي كنتيجة حتمية لنجاح المشروع الإخواني القبلي من إقناعه بتحالف الرئيس السابق مع الحوثيين، وأنه لولا وقوفه معهم ما سقطت حاشد وما تقدموا خطوة واحدة.
 
ولعل ما حدث من إغلاق لقناة (اليمن اليوم) ومحاصرة (جامع الصالح) ما هو إلا إفراز طبيعي لتصديق الرئيس (هادي) وإيمانه بتحالف صالح مع الحوثيين.. وأنا هنا لا أثبت أو أنفي حقيقة ذلك التحالف، ولكن الشواهد والأحداث تشير إلى وجود ما يشبه التحالف، وإن لم يكن فثمة إغضاض للطرف من لدن الرئيس السابق على التمدد الحوثي. وهو ما يعني أننا قادمون على تحالف حقيقي بين المشاريع المتصارعة اليوم، فطبيعة مجريات ما يحدث تقول بحتمية تحالف مشروع الإخوان القبلي مع المشروع الجديد (مشروع الرئيس هادي)، وكذا تحالف مشروع الرئيس السابق (صالح) مع  المشروع الحوثي وما نراه اليوم من استعار للحرب وتعاظم للأزمات ما هو إلا بداية حرب طويلة بين هذه المشاريع المتحالفة. ولا نستطيع التنبؤ بما ستئول إليه هذه الأحداث والحروب، سوى التأكيد على اتساع عقيدة التآمر والتخابر والارتهان للأجنبي وفي المقابل ضياع الهوية أو تمزيقها واتساع دائرة الجوع والفقر والمعاناة والموت في هذا الشعب المسكين والضعيف والبليد والجاهل. 
الحجر الصحفي في زمن الحوثي