عشرة في المائة ليمن افتراضي يا حُفَّاظ الودائع! (الحلقة الأولى)

د. هاني جازم الصلوي
الاربعاء ، ٣٠ ابريل ٢٠٢٥ الساعة ١٠:٤٢ مساءً

 

يمكن لعشرة في المئة من إحدى الودائع أو المنح أو القروض المقدمة لليمن من الجيران والإقليم أو المجتمع الدولي، أن تنشئ يمنًا افتراضيًا من أقصاه إلى أقصاه، بلادًا افتراضية موغلة في الواقعية معًا، تتفاعل مع الإقليم والعالم، وتنظم علاقة اليمني بأخيه اليمني فالعربي، وإخوته في الإنسانية وما بعدها، وإن كان سياسيونا سيجابهوننا بمسلمة جاهزة تؤكد أن البلاد اليمنية، في جزء منها، تقع صنعاء العاصمة التاريخية لليمن في صدارته، مختطفة بيد المليشيات الحوثية، الوكيل المحلي للترسانة الإيرانية المفخخة بأوهام الولاية، وخلخلة الإقليم لمصلحة مآرب تخريبية متأصلة في عقلية ولاية الفقيه، ومن ثم فالدولة مسجونة في كهوف المليشيات، والمليشيات هذه لا تكف عن استفزاز المجتمع الدولي في كل الأماكن ومنها البحر الأحمر، كيف تريدون منا القيام بمشروعات افتراضية خيالية؟!

غيَّر الحوثيون المناهج الدراسية، ولغَّموها بموضوعات ومفاهيم عنصرية، وأصبح لليمن نظامان تعليميان؛ أحدهما مدني تديره، على قلة ذات اليد، الظاهرية الشرعية اليمنية، وهو يحتاج في كل الأحوال إلى المراجعة الشاملة والتطوير وتأهيله لمواكبة العصر، وآخر كهنوتي إمامي ممعن في دس مفاهيمه القروسطية البدائية والظلامية في عقول طلاب اليمن، وحشو أذهانهم بعداوات متخيلة، فخَّخت أذهانهم، وقد نجح في إنجاز مشروعات موت لا يمر اليوم الواحد إلا وهي تحصد أرواح الطاقات الأقوى، النشء والشباب، حيث يرسلهم مبتهجين إلى الجبهات لمقاتلة إخوانهم الشباب الوطني اليمني الحامل لقضية الوطن والدولة، ومصارعة سائر فئات الشعب اليمني التي لا تريد سوى استعادة دولتها المفقودة، مهما كلفهم الأمر من تضحيات بالأنفس والأوقات والأموال، وما إلى ذلك، ومثله كثير في الشأن التعليمي والتربوي، ويدير هذا النظامَ الحوثيون!

أما كان على الحكومة الشرعية اليمنية المعترف بها عالميًّا معالجة هذه الأزمة القاتلة ببرنامج تعليمي رقمي يصل إلى كل مكان في اليمن، بما في ذلك المناطق التي اختطفتها الحوثية؟! ماذا لو أنشأت الدولة عبر وزارة التربية والتعليم أو التعليم العالي والمهني، أو رئاسة الحكومة، أومجلس قومي أعلى للتعليم، برنامجًا رقميًّا موازيًا يستطيع الطلاب في مناطق الحوثي مثل أقرانهم في المناطق المحررة، متابعة المنهج الدراسي المدني المعتمد في البلاد، برنامجًا يستطيع الطلبة متابعة تعليمهم المستقل والمدني والحديث من خلاله، كما يستطيع القائم اليمني على التربية والتعليم بكل هيئاته تقييمهم وتصعيدهم في سلم التعليم العام والعالي؟! هل تستطيع أية جهة معادية لليمن منع ذلك؟! هل يقدر الحوثي على منع ذلك، إذا أخذنا في الحسبان أن هيئات التعليم في الجهة المختطفة من يمننا سوف تعجز على سبيل اليقين عن مراقبة كل طالب يمني، ومتابعة كل ما يتعاطى معه على جهازه المحمول؟!

ماذا لو أطلقت الحكومة برامجَ وتطبيقات رقمية شعبية سهلة "تقرب البعيد كما تقول جداتنا"، يتعلق بعضها بتمكين المواطنين في الأراضي السيادية القريبة والبعيدة من إنجاز معاملاتهم من أماكنهم، أو حضورهم إلى المراكز والأجهزة التي تتطلب حضورهم إليها في أوقات محددة من قبل البرنامج، فتقل مصروفاتهم في المدن الرئيسية وبيعهم الغالي والرخيص لإنجاز معاملة إجرائية بسيطة؟! وماذا لو طرحت المنح التعليمية على شبكة مختصة ووضعت عليها جميع المعايير المقترح توفرها في المتقدم؟! ماذا لو وضعت النتائج على هذا المتصفح بعد الإجراءات المتبعة فتمكن الجميع من معرفة سبب ربح الرابحين وخسران غير المقبولين؟!

أكنا سنشكو من سمسرة المنح؟! أكانت أوضاع المواطنين ستزداد سوءًا لأنهم يعجزون، إلا القلة، عن الوصول إلى المراكز الرئيسية للخدمات؟! والطرح نفسه ينطبق على موضوعات وبنى الدولة الأخرى وخدماتها التي غدت أعسر من ذي قبل.

البوابة؛ فلاش باك:

ليست هذه القضية/القضايا بالبسيطة، وإذا كان الأمر أبعد مما نعتقد، ونستطيع الشروع هنا من المستقبل بوصفه حاضرًا، حاضرًا علينا ألا ندخر جهدًا في صناعته طرقًا فاعلة للقادم، وإذا كنتُ شخصيًا استهللت هذه الجولة بسوابق عدة، فقد تلقيت رسائل كثيرة من أصدقاء ومتابعين تمحورت كلها حول مقالي الذي نشر أخيرًا تحت عنوان"الإتجار بمستقبل اليمن ... ما زالوا يخاطبون الملك فيصل!"، على صفحات موقع"يمن فويس"- والحقيقة إن هذا المقال نشر في موقعين آخرين من قبل، سنتين وسنة، ولكن إعادة نشره الآن وردت بعنوان مختلف، جلب إلى متنه الكثير من التفاعل معه، وإن انحصرَ غالب التفاعلات في جانب النص المتعلق بالتعليم الرقمي، وهو الجانب الأكثر قربًا إليَّ شخصيًّا، وإلى ما أفكر به دائمًا، ومن هذه التفاعلات مقالا الدكتورين العزيزين؛ الدكتور أحمد الفلاحي الذي تساءل خلاله: هل تستمع الشرعية اليمنية إلى ما كتب ... أم على قلوب أقفالها؟!، والدكتور عبد الرحمن الزبيري وهو نائب سابق لجامعة تعز، الذي محور تناولته بنقاش هادئ مع ....، والإصلاح الرقمي، وهاتان المباحثتان عمليتا تفاعلٍ رصينتان تنمان عن إحساس طاغٍ بالوطن والنشء لدى كاتبينا العزيزين، مع اعتزازي الكامل بسائر التفاعلات الأخرى مع ما كتبت، وهو ما قد أتناوله في إطلالة مقبلة!

 كثر التفاعل حقيقة مع ما طرحه المقال، غير أن ما استفزني ودعاني إلى العودة في هذا المتن، هو رسالة من أحد المثقفين، أرسلها إليّ على الماسنجر، حملت ردًا عنيفًا على محتوى تلك التناولة، وكيف نفكر بموضوع يراه مثاليًّا فيما الناس في اليمن يموتون من الجوع، فإشباع بطون الناس يجب أن يكون الهدف الأول، وهو تقدير للموقف أجله وأحترمه، ولكن الموقف أكبر من ذلك، بل فيه بعض المعالجات التنظيمية لمثل هنا الإشكالات؛ فيمكن ليمن افتراضي أن يوفر عددًا من فرص العمل تعالج تردي حالتهم المعيشية، فضلاً عن مطالبات بعض الأصدقاء بالاستمرار في طرح المسألة الرقمية، ومطالبات بعضهم الآخر بالتبسيط أكثر، وهو ما أخشى منه، فهذه الموضوعات تحتاج في أساسها إلى الغوص فيها أعمق.

ولعل من الطريف هنا، قبل أن أخلص إلى ما يتماس مع موضوعنا مباشرة، أن أورد ما ذيل به هذا الصديق رسالته، وهو عبارة عن أبيات بحثت عن صاحبها فوجدته الشاعر كمال عبد الحليم، جاء فيها:

في سماء الخيال ضُم جناحيك-تقع بيننا ــ فتصبح منَّا

دعْ جمال الخيال وادخلْ كهوفًا للملايين- واروِ للكون عنا

 إنما الفن دمعة ولهيب ــ ليسَ هذا الخيال والتيه فنا!

 عنت لي هذه المصفوفة الاستفزازية الكثير، لأكُنْ صريحًا مع نفسي أولاً!، ومن ثمَّ لزم علينا توضيح ما قادنا إليه العلم الأحدث فيما يخص هذه النقطة؛ إذ ليس في المسألة أي نوع من الخيال أو الخبال حتى، فلم يعد العالم، واليمن أحد فضاءاته شئنا أم أبينا، في إدراكه يضع الواقع والخيال، بصفتهما التقابلية التضادية في مساحة من التضاد والضدية، موضع الحسبان، بعد اكتشافات العلماء أن التفريق بين ما هو واقعي وملموس، لا يعدو عن كونه وهمًا رزحنا في أصفاده أزمنة طويلة، وهي متحققة علميًّا أثبتت نجاعتها إلى حدود بعيدة، أبسطها إفادة المختصين في تعليم اللغات حديثًا منها فأسقطوا مقولة ضرورة ممارسة اللغة في بيئة حقيقية بين متحدثي اللغة الأصليين من أجل تعلمها، وتبنوا تعليم اللغة عبر البيئات الافتراضية التي ليست في كنهها سوى بيئات حقيقية، بل إنها لتتفوق عليها دائمًا.

ولا تقف فاعلية الكشف عن سقوط ما بين الحقيقة والخيال من هوة وتفريق عندما أشرنا إليها وبسطنا، وإن كانت هذه الهوة قد سقطت بشكل عكسي من زمن لدى السياسي اليمني، فإن الأندر من الندرة منه، لمصلحة خيال قبلي جامح أمن لنفسه حصصًا ومكاسبَ عملاقة بدون وجه حق!، بل إن نار سقوط تلك الهوة الفاعل، في العالم المتحضر بعيدًا عما أقحمنا من خصوصية محلية، لتمتد أبعد من أقصى إدراكاتنا، فنجد من يقول بسقوط كل الأطر السابقة، الكلاسيكية والمحدثة، ومن ذلك علم الاجتماع، وهو ما يوضحه "كونان كوبان" في مقدمته لكتاب فيليب ريجو"ما بعد الافتزاضي استكشاف اجتماعي للثقافة المعلوماتية"الصادر بلغته الأصلية عام ٢٠٠١م والصادر بالعربية عام ٢٠٠٩م، وهو قديم أيضًا بالنسبة لما يطرح حاليًا، فـــ"إذا كان المجتمع ليس سوى اختيار افتراضي، بحسب كوبان، حسب الطلب بشكل ما، ربما لا يكون هناك مزيد من الاحتياج إلى استدعاء علم الاجتماع أو"الأنثروبولوجيا"، لفهمه وتحليله..".

 ويتجاوز مفهوم الثقافة المعلوماتية، يطرح ريجو في العمل سالف الذكر، مجرد السيطرة على الأدوات والاستخدامات، وحتى الخبرة التقنية ليست دون شك سوى مظهر ثانوي للثقافة المعلوماتية ـــــ التي تصبح من جانب آخر مصدرًا تجاريًّا عامًا، صالح لبيع كل أنواع المنتجات، ولتشريع الجماليات، وأيضًا العقائد شديدة الاختلاف ... ونفس الشيء بالنسبة للفضاء المعلوماتي الذي لا يحده فحسب الاتصال الإلكتروني في الشبكة، ولكنه ينتشر ، من ثم، كممارسة أو خطاب يتم الانتماء إليهما تحت عنوان أو آخر، أو إلى الثقافة المعلوماتية التي تنتجهما معًا ويتولدان منها ...".

  وقد تدرج العالم في بلوغ الفضاء الشبكي الافتراضي من فعاليات يومية وخيالية وحلمية وأدبية"الخيال العلمي مثلا"، ورياضية، إلى اللاتناهي الشبكي الافتراضي الذي ننغمس جميعًا اليوم في فعالياته وتقلباته، ولم يكن هبوط البشر هنا، وجمع أقرانهم الضمني، سهلاً فقد واجهت عمليات التحول هذه عبر التاريخ مقاومات شديدة وعنيفة، ولنتذكر هنا أعداء التقنية من أمثال الفيلسوف شبنجلر، وجماعة أعداء الآلة في بريطانيا التي أرهقت الحكومة البريطانية متابعاتها، حتى سيطرتها عليها وهزيمتها. ".

ومثلما يطور الافتراضي نفسه، ويتشظى محتلاً كل شيء، تتطور مقاومته وتكتسب يوميًّا طاقات قوية جديدة، رغم أنها لن تستطيع مواجهة هذه الفعليات الجديدة العاصفة، وهي مقاومات تنطلق من منصات عدة منها الخوف على الإنسانية، ومنها ضرورة الاستبسال في الحفاظ على الهوية المحلية، والدولة، ومنها، على كثرتها، منصات تعزيز القومية الواحدة، ولحمة الشعب، ودرء الخطر عن الشعب، والتحذير مما ينتظر البشرية من تهديدات قاتلة، فـــ"التهديدات، كما يقول فلانتين كاتسونوف في كتابه"العملات الرقمية المشفرة ... الطريق إلى معسكر اعتقال إلكتروني، والمخاطر المذكورة، للأسف، ليست سوى زهور بالمقارنة مع ما ينتظر في المدى البعيد؛ حيث إن المجتمع والإنسانية مهددان بالاسترقاق الرقمي الكامل، ويعد مشروعِ المجتمع الرقمي بالشكل الذي يقدمه الخبراء الغربيون والمحللون، من الناحية التصويرية، مشروع بناءِ معسكرِ اعتقال إلكتروني، لعلِ التقنيين لا يشكون في هذا ..".

على أن انطلاقنا من كاوتسوك هنا، ورغم ما ينضح به كتابه من مقاومة، مع طرحه عددًا من الرؤى الافتراضية المهمة، لا يعني انحيازه للكلاسيكي والتقليدي والبسيط والإنساني ورِدَّته، إنما كان انطلاقًا من توضيح كيف أن مقاومة الافتراضي تنبع أيضًا من الافتراضي ذاته وهذه واحدة من أوتاد قوته الجبارة، كما أن كاوتسوك يستند إلى تاريخ طويل من الصراع الروسي الغربي، ومن هنا استهلَّ كتابه من اقتراح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب له أمام الجمعية الفيدرالية في كانون الأول ٢٠١٦، "إطلاق برنامج الاقتصاد الرقمي، كما صرح في الوقت نفسه بأنه من الضروري تقوية البنية الرقمية لمواجهة الهجمات السيبرانية، التي ازداد تهديدها بشكل حاد منذ اللحظة التي فرض فيها الغرب عقوبات اقتصادية على روسيا".

 وإذ لم يكن غرضي الإطناب في شرح وتفسير ما يحدث، بقدر ما هو الإحالة البسيطة إلى بعض ما يعتمل في الدوائر الفكرية والاستراتيجية والفكرية في العالم، فيمكننا من التفاعل مع الأمر، من وجهة نظر فاعلة وإن غدت هي الأخرى عتيقة الطراز، وأعني المقولة الشائعة: إنَّ" القليل من التقنية يمكن أن يبعدنا عن الإنسان، لكن الكثير منها يمكن أن يعيدنا إليه"، مع حذف كلمة يمكن الاحتمالية، ووضع كلمة "سيعيدنا" محلها، لا سيما وأن العلم يقول بسقوط كل أطر الماضي، ومن ذلك مفهوم الدولة نفسه، وقوالب مثل الحكومة، ورئاسة الجمهورية، رئاسة الوزراء، الوزارة، الهيئة، المصلحة، اللجنة أيضًا، و ...إلخ، ولن أكون يوتوبيًّا كما وصفني صاحبي طالبًا مني عبر الشعر، بضم جناحي لكي أسقط وأعيش الواقع، لن أكون كذلك فأغفل عن سؤال: لو صح ما تقوله لماذا إذن ما زالت أمريكا تحكم العالم، ولماذا لم تسقط هذه الأشكال التقليدية للحكم وتتبنى ما تبشرون به أيها الريبوتات والببغاوات؟! هل تعلمون أكثر من بايدن؟! هل تعرفون أكثر من ترامب والمؤسسة الأمريكية؟! لماذا لا تختار الصين أو روسيا، وحتى فرنسا، وغيرها من الدول المتقدمة هذه الخيارات اليوتوبية والتبشرية؟! لماذا ..؟! لم ...؟! ولم ولم ولم .... ؟؟؟؟؟!

 وستتوالى الاستفاهمات، وهي استفهامات استنكارية منشؤها في الغالب عدم المتابعة الحثيثة لما يحدث في العالم على هذه الجهة من الفعل؛ إذ إن من سيلاعبنا بهذه الاستنكارات سيمثلون في الغالب أفضل المتابعين للشأن العالمي، وبالأخص من اليمنيين، ومما لا شك فيه أن وعيهم المنبثق عنه هذا الرفض، نابع من إيمانهم بما تقدمه المؤسسات العالمية المسيطرة من مفهوم متماسك للإنسان، وتنوء بالاستبسال في ترويجه ما تعرف بالمنظمات الإنسانية، ومراكز الأبحاث المتخصصة بالعالم الثالث تحديدًا..

لا حل أمامنا سوى الاشتباك الفاعل مع الافتراض، وتاريخيًّا، تكوَّنت الأرضية الذهنية لأسس الافتراض بشكل شبكي واسع مع مرحلة ما بعد الحداثة، منذ منتصف القرن المنصرم، أو قبله أو بعده ببضع سنوات، على اختلافات طفيفة في التحديد، غير أن اشتعال هذه الآفاق وتعاظمها بحيث صارت تطبيقية، كان مع بعد ما بعد الحداثة، منذ ما بعد الألفية وإلى اليوم، فـــ"ما بعد الحداثة" تتوجه، بحسب مجلة سيبر زون ،cyber zone، وهي مجلة انتهت قبل ٢٠٠١م يقول فيليب ريجو، إلى كل من يفكرون بتعبيرات التفاعلية والسلاسة والسرعة والاتصال الفوري .."، وإزالة التعقد والاضطراب والاستقلال هو انعكاس لجيل تكون بمفرده تمامًا" .. .

لقد شكل ظهور الإنترنت، مع ما بعد الحداثة، العاصفة الأضخم في تاريخ البشرية والكون، مع ظهور الشبكات الأولى مثل شبكة أربانت، ولكنه تضخم وتفاقم في آفاق لامتناهية من حلول الإشكاليات الواقعية، مع ظهور شبكة الإنترنت بشكلها الحالي في منتصف العقد الأخير من القرن العشرين، ومع صيرورة هذه الشبكات شعبية، ثم تعقد وترامى وأصبح أكثر فعلية وقوة وحضورًا مع ما بعد الألفية بصيغها المتعددة، وأصبحت العهود اللامتناهية الشبكية الحديثة تجسيدات حقيقية لذهنيات ما بعد الحداثة الفاعلة، ولنتبين ماهية ما بعد الحداثة من هذه النقطة، على الأقل، سيستحسن الرجوع الموجز لما بعد الحداثة البالغة التعددية، وإلى ما عرف بمجتمع المعرفة تحديدًا، وقد تعددت تسميات عصور ما بعد الحداثة، وتنوعت، على غرار تسمية مجتمع المعرفة هذه، "وتدخل ضمن هذه الفئة، يطرح صاحب المجتمع الشبكي"دارن بارني"، أسماء على غرار "التنوير" أو "مجتمع المعرفة"، أما في حالات أخرى فتكون التسمية أكثر موضوعية، وتسعى إلى تقديم وصف نزيه كما هو دأب التقاليد الأرفع في علم الاجتماع، وفي بعض الأحيان تنتج الأسماء من تأمل واسع وشامل لفترات تاريخية مرت منذ فترة طويلة، وفي بعضها الآخر يربط الساعون إلى تسمية عصر ما أنفسهم بالحاضر أو بالتنقيب، على نحو خطر، في المستقبل. أخيرًا، نجد أن الأسماء المتنوعة المرتبطة بالفترات التاريخية تركز على متغيرات تختلف من حيث النوع، فبعضها يتعلق بتنظيم الإنتاج والعلاقات الاقتصادية "العصر الصناعي"، وبعضها بالنشاط السياسي "عصر الثورة"، في حين يتعلق بعضها الثالث بالبنية الاجتماعية "المجتمع الجماهيري" .. .

شهدت الفترة السابقة لمطلع الألفية كثيرًا من محاولات إسناد تسميات إلى ذلك العصر. وعدَّد جيمس بنيجير"Beniger .J " في كتابه ثورة السيطرة"Revolution Control The" ما لا يقل عن خمس وسبعين تسمية مختلفة متداولة أكاديميًا وشعبيًا بين عامي 1950 و1985، حاولت كل واحدة منها تحديد الخصائص الحاسمة والمغيّرة لملامح الفترة، وتخمة التسميات هذه تجعل الواحد منا يتساءل: هل ينظر التاريخ بمكره، إلى الوراء ويخلص إلى أن يسمِّي عصرنا عصر التسمية؟!

تمثّل أطروحة المجتمع الشبكي جانبًا صغيرًا من مجرَّة هذه المحاولات الحديثة الرامية إلى فهم ما نحن في خضمه فهمًا دقيقًا، وإن فهمنا له، بوصفه مفهومًا مميزًا، لا بد أن يفيد من النظر في الكم الهائل من الخطابات المرتبطة به بشكل وثيق، من الناحيتين المفهومية والتاريخية على حد سواء، ومن هنا، يمضي دارن بارني في القول: أود في هذا القسم التركيز على التسميات التالية: عصر ما بعد الصناعة، ومجتمع المعلومات، وعصر ما بعد الفوردية، إضافة إلى عصر ما بعد الحداثة، والعولمة، ما ينبغي التشديد عليه في البداية هو أن هذه العبارات كلها، بما في ذلك عبارة "المجتمع الشبكي" هي تجميع لجهد متعدد للتعبير عن الروح المميزة لكل ما يلي تحقيق المشروع الحديث في الغرب أو استنفاده، ففي العالم الغربي كان عصر الحداثة، من بين أشياء أخرى، عصرًا للتقانة التصنيعية وللانقسامات الطبقية والمجتمعات الجماهيرية والأسواق، إضافة إلى الصراع الأيديولوجي وتنظيم السلطة السياسية على مستوى الرقعة الترابية للدولة القومية ذات السيادة، وتقرير إذا كانت هذه الحقبة انحسرت في الهزيع الأخير أو تمَّ تخطّيها سيظل محل نظر وتمحيص وخلاف، لكن المؤكد هو حصول تقلبات وانحرافات لوحظت في مختلف جوانب هذا المسار، وجرت تسمية كل اكتشاف منها باسم خاص به".. .

دُمِغت حياتنا بالتسميات المتقلبة والمتغيرة والقابلة كل برهات لأن تنقلب على مسلماته في سبيل أنماط جديدة فاعلة لا تفتأ تنتج أشكالاً أجد، وحيثيات أقدر، وأعنف إثمارًا، ليمكن لنا الزعم أنه حتى مجتمع المعرفة مابعد الحداثي الفاعل، صار إلى حالات أكثر إنتاجية، وقد جُوبه هذا المصطلح والفاعلية نفسه، من أعداء من داخله، ومن داخل السياقات المحيطة به، أو العاملة ضمنه، ومن خارجه أيضًا، فقد "تخطّت هذه الأفكار التي أحاطت بـ "مجتمع المعلومات" بسرعة جذورها الضاربة في المثالية الطوباوية، وما عادت تبالي بالعلوم الاجتماعية، وبحلول الثمانينيات اتخذت هيئة مذهب ثوري ممّيز، حدد له نيك داير وذفورد سبعة عناصر مميزة، لا يتسع المجال هنا لعرضها.

من المفارقات قدوم الاعتراض من قبل ما بعد الحداثة نفسها، قبل أن تقضي الاعتراضات على نفسها بنفسها، فــــ"في عام 1978 نشر الكاتبان الفرنسيان سيمون نورا وآلان منك كتاب مجتمع المعلوماتية وتُر ِجم إلى الإنجليزية على النحو "حوسبة المجتمع "، وهو عبارة عن تقرير قدِّم إلى الحكومة، افترضا فيه أن "الترابط المتزايد بين أجهزة الحاسوب والاتصالات، السلكية واللاسلكية" سوف يغيرالجهاز العصبي للتنظيم الاجتماعي بأكمله... ويفتح آفاقًا جذرية جديدة... ويحوِّل نمط ثقافتنا... ويؤثر في التوازن الاقتصادي، ويعدِّل موازين القوى، ويزيد المخاطر التي تتعرَّض لها السيادة، ... وأوضح التقرير في جملة توصياته ضرورة قيام الدولة بـ: "توحيد الشبكات وإطلاق أقمار الاتصالات وإنشاء بنوك للمعلومات، وإرادة إرساء اللامركزية عندما تتطلب التغييرات اللازمة من جماعات أخرى أخذ زمام المبادرة"... . 

 

يتبع .... 

 

 

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي