لم يتوقف اليمنيون منذ وقت طويل عن التحاور والنقض حتى اليوم، وربما سيستمر الأمر طويلا ما لم تفكك سياقات الإصرار على نسخة قبلية رعوية من التحاور تسببت فيما وصلنا إليه، وبنظرة محدقة في صراعات الرفاق التقدميين في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي مثلت تطورًا في السياق اليمني، سيجد ركضًا مبالغًا فيه من قبل جناح واسع من المتصارعين صوب التشابه مع السلوك القبلي لدى جل الوعي القبلي الغالب شمال هذه البلاد الرحبة من خلال احتكامهم إلى العنف والتصفيات الجسدية والإلغاء الإنساني، كما ألمحنا قبلا، وإما رجعنا بالزمن إلى ما قبل ثورة ١٤ أكتوبر جنوب الوطن، وباحثنا نقاشات تشكيل اتحاد إمارات الجنوب العربي، سنلفى العدنيين رافضين إدماجهم مع المحميات لأنهم لا يشبهونهم، وقد تصاعد الرفض حينها عاليًا.
إن المتعاطي مع دراسة آفتين يمنيتين كالتشابه والحوار لن يعدم من مقابلة حشود زمنية ومكانية ووظيفية على ما سبحنا قليلا في مائه، وعسى أن يمكنه هذا من فهم عميق ومنتج للحالة اليمنية المتشظية، ومن هنا، ربما كان من الضروري لنا قبل أن نأتي إلى نهاية هذا البسط المختصر لما طرحنا، التعريج على موتيف مهم من مصفوفات هذه القضية ذات الوجه المثنى، وأرمي إلى ذلك الموتيف النشط المتعلق بصفة يصح أن تأخذ وضع إحدى علل ما بلغنا، وهي الإفراط في خوض معترك المشاركة في إدارة المرحلة، وهو حق أصيل لكل يمني في حالتنا، لكن ما يقع موقع الشجب منه هو دفع أصحاب المصالح والأغراض بقطعان من المحسوبين عليهم إلى الحلبة دون سابق تأهيل أو تفهم، وسنكون ظالمين للتكتلات القبلية إن حصرنا الأمر فيهم وحدهم؛ لأن الاتجاهات التقدمية الواعية، لا سيما في عهد الإرياني، لم تقدر على سل نفسها من المسألة، إذ اندفع فريق كبير منهم إلى محاولة فرض سلطتهم بالعنف، ويبرز واضحا أمامنا هنا، الحزب الديمقراطي الثوري، بتلك العناصر والتنظيمات التي أسهمت بقوة بشكل لا مثيل له، في بناء الدولة اليمنية بعزيمة ووعي، في العشر السنوات الأولى من ثورة ٢٦ سبتمبر، فقد مال جمع منهم إلى فتح الجبهات ضد الدولة، رغم أنهم كانوا حينها الماكينة الأساسية للدولة، وهو مما لا يمنع من التنويه بفريق واع منهم عرفوا من حركة الواقع اليمني أكثر من اللازم باكرًا، ومن هؤلاء على سبيل المثال، بحسب رأي بعض مثل أحمد قاسم دماج، المناضل الفذ عبد القادر سعيد الذي انطفأ في وضوح النهار.
وعلى ذكر التجربة في جنوب اليمن بعد ٣٠ نوفمبر، أجد من المغري، مشاركة حكاية لحسين الحبيشي رواها عما جرت من محاكمات بعد نوفمبر في عدن حينها، حيث يقول:" عند عودتي إلى عدن بعد الاستقلال ببضعة أشهر ، كنت أشاهد التلفزيون وإذ بلجنة عسكرية يرأسها الزميل عبد الله الخامري تحاكم أحد سلاطين المحميات، أظنه الكلدي، .... الخامري يخلع معطفه ليضعه مرتكزًا على مقعده، ويسأل الكلدي لماذا كان موظفًا مع الإنجليز؟! والكلدي يجيب: الرئيس قحطان كان موظفًا عند الإنجليز! .."، وهو مثال يتسق مع قطعان من الأمثلة اليمنية عموديًا وصعود وهبوط في التاريخ، أو أفقيًا داخل الحاضر والعهود الجديدة، وقديمًا.
واستراجعًا، عانى الخليفة عمر ابن الخطاب من هذا المزاج اليمني المتأصل، عند وصول فرق اليمنيين الكثيرة للمشاركة في الفتوحات، إذ أرادت الجموع اليمنية الانضمام الى فرق وجيوش الدولة في الشام لقتال البيزنطيين، رافضين الانتساب لجبهات العراق، لا خوفًا من الفرس، وإنما التحاقًا بالجموع اليمنية السابقة الملتحقة بجبهة الشام، رغم التحاقهم آخر الأمر بالماضين صوب العراق، ولكنه التحاق جاء بعد إلحاح وإغراءات شديدة من الخليفة لإقناعهم بالجبهة الشرقية، حيث تتأهب الأجناد لاقتحام فارس، وقد قتلت جموع من اليمنيين على امتداد التاريخ، لا من أجل اقتراف جرم ما بل لتشابهات لهؤلاء مع مطلوبين غيرهم وجب قتلهم، فالوالي على اليمن من قبل العاصمة المركزية للدولة الإسلامية عبد الملك بن عطية السعدي الذي قضى على حركة طالب الحق في حضرموت ١٢٩ه ، قتل بعد عودته إلى صنعاء من قبل إحدى القبائل لأنهم ظنوه أحد اللصوص المشهوريين والعهدة على الطبري وراويه، كما عهد اليمنيون، خلال هذا العهد ومن قبله ومن بعده، إلى نقل استخدامهم لفعاليتي التشابه والاختلاف على طريقتهم، إلى الأمصار التي انتقلوا إليها، وربما ورد وصم عرب اليوم بهذا الاستعمال من مخلفات انتقال العدوى إليهم من مهاجري اليمن إلى بلدانهم، ومما يثبت المؤرخون أن اليمنيين في جيش عمرو ابن العاص الذي استولى على مصر، قد وزعوا أنفسهم على القاهرة بحسب توزيع قبائلهم في أرضهم اليمنية الأصلية هناك، حيث يتوجب على كل جماعة أو قبيلة جاءت من شمال اليمن أن تقيم في شمال أرض الهجرة الجديدة-مصر في هذه الحالة، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الجهات الأخرى من المكانيين الأصلي والحديث!
اقتضى النظر إلى الأمور بحيادية الإشارة إلى تجربة وئدت في مهدها-عبد القادر سعيد، فيما بدأ كمثلبة كبيرة، غير أن ما أفضل أن يكون ختامًا، هو التأكيد على تسبب استعمال وممارسة الحوار على الطريقة اليمنية بعدد من أحداث العنف في اليمن، وأوضح مثال على ذلك الإحالة إلى أن حدوث أحداث أغسطس ١٩٦٨م، قد آعقب واحدًا من مؤتمرات اليمنيين، "مؤتمر مشايخ القبائل في مدينة "عبس" 8 يوليو 1968م"، الذي لا يسعنا إلا وضع نص بعض قراراته هنا، كما وردت في أدبيات المؤتمر، وهي: حل فرق المقاومة الشعبية في كل محافظات الجمهورية، فصل الضباط من ذوي الاتجاهات اليسارية وأنصار عبد الرقيب عبدالوهاب من صفوف القوات المسلحة، ودعوة المؤتمرين إلى تشكيل جيش شعبي أو أي فرق قبلية مسلحة تابعة لمشائخ القبائل أو تحت قيادتها، وحظر ومنع استيراد الكتب والمؤلفات المخربة، والمستوردة من الخارج التي صنفت من قبلهم على أنها شيوعية وإلحادية، بدون أساس، حسب ما تشير المصادر، وقد أعلن المؤتمرون وقوفهم إلى جانب النضال ضد الإيديولوجية الحزبية وكل من يؤيدها، وإلغاء الاتحاد العام لعمال اليمن، وإلغاء الجمعيات واللجان الفلاحية التي كانت في بداية تشكيلها في بعض مناطق اليمن.
-->