شابه الاتحاد الثوري الشعبي الذي أنشأه السلال في تحد واضح لأصحاب مؤتمر خمر، ودوائره وتوسعاته اللاحقه، الاتحاد الاشتراكي في مصر، بل صارح بجدية بسعيه لاحتذاء حذوه، أما مؤتمر سبأ "الهرار" المؤتمر الضد لمؤتمر الاتحاد الثوري الشعبي، فقد خلص إلى وجوب مشابهة قوى المؤتمر للدولة، ومن هنا قرروا إنشاء جيش مواز من ثلاثين ألف مقاتل، إلى جانب سعيهم إلى مشابهة الخارج، ومشابهة قوى التسلط القبلي الماضوية، مما يقودنا إلى موافقة إحدى الباحثات في التاريخ اليمني ــــ أروى المومري-في أطروحاتها عن المؤتمرات في اليمن في تلك الفترة ـــــ من جانب بعض سياقات تأكيدها، أثناء مناقشتها هاتين الفعاليتين المتضادتين، على إظهار مؤتمر الاتحاد الشعبي الثوري"الاصطفاف الوطني داخل إطار القيادة الجمهورية ظاهريًا؛ لأنه أظهر أن الانشقاق ما بين صفوف القوى الجمهورية إنما هو تغليب البعض لمصالحهم السياسية والمادية، بالإضافة إلى أن الخلاف نتج عن التخلف الثقافي والسياسي للبلاد، والذي عكس نفسه على الوضع فيها، ومن ثم نمت الميول الطبيعية للقبيلة أو للطائفية، وهذا هو الرأي الذي أدى بدوره إلى نشوء أحلاف سياسية مختلفة، أدت إلى تنازل بعض أعضاء المعارضة عن النظام الجمهوري، وتأييد إقامة دولة أخرى تسمى الدولة اليمنية الإسلامية، والتي اعتبرتها الحكومة اليمنية من مخططات الاستعمار والرجعية". على أن هذه المتابعة، هنا، للكاتبة، على جزئيتها، لا تعني البتة وصم سائر القوى الثالثة بالمشين من الاستهجان، فقد كان معظمهم وطنيين على طريقتهم، غير أن جامعًا هلاميًا قائمًا على مباحث من غموض وإبهام تشابهيين واختلافيين سيدفعنا حتما لتلمس بعض المريب في إحداثيات الواقع اليمني المتشظي والصعب، على تفلت مكانها، ومن هنا مثل العجز عن الفهم أمام كل محدق في الشأن اليمني لا سيما بعد سبتمبر، فاختلافات اليمنيين، تباينات عويصة، لا تُبَاغت معها وعندها سوى بالعجز ، حيث " لا تستطيع الاعتبارات العسكرية، ولا الاعتبارات القبَلِية البحتة، ولا التاريخ السياسي للشخصيات كأفراد، تفسير جميع الاصطفافات، كما يطرح الباحث الغربي المهتم بشؤون اليمن "بول دريش"، فالخطاب السياسي الوطني اليمني، بحسبه، اختلط منذ البداية بالقبَلِية التي أبدت قدرة ملحوظة على التلاؤم". تتشابه القبائل فيما بينها، تشابهًآ يكاد يقطع بتبخر الاختلاف وينعدم التباين، بينا لم يكن ولن يكون هذا الانعدام والتلاشي سوى وهمٍ مستأسدٍ دأب طويلا على التخفي الحاد متى سمحت له الظروف واقتضت ذلك، وعلى الظهور والإشعاع وإطفاء العيون متى عنت له الفرص، وقد كان لهما هذا منذ انطلاق الشرارة الأولى للثورة اليمنية ٢٦ سبتمبر، إن حاولنا الشروع من هذه النقطة المضيئة في تاريخ اليمن؛ لأن حالة اليمنيين الثنائية هذه أقدم من هذا بكثير، مع اختلافهم على من أذاع بيان الثورة الأول، وكيف تشكلت الحكومة الأولى، ونحن هنا لا نصادر على الاختلاف فاعليته، ليبحث كل منهم عمن يشبهه ليكون سنده بين التشكيلة الجديدة، ثم أراد البيضاني مشابهة مصر حرفيًا فجاء بتشكيلة جديدة، وهلم جرا، وقد سارع البيضاني يلقي خطاباته في كل مكان، في صنعاء تحديدًا، بعد وصوله إثر قيام الثورة، حتى أنه كان يخطب في الجماهير من الطابق الثالث للقصر الجمهوري في الوقت نفسه الذي كان القاضي الزبيري يخطب فيه، في الجماهير نفسها، من الطابق الأول من القصر نفسه، والعهدة على الراوي! اختلف الثوار اليمنيون بعد حركة ٥ نوفمبر على ثيمات كثيرة، أغربها الاختلاف على كيفية تحقيق السلام مع القوى الملكية والسعودية، على الرغم من انطلاق هذه الحركة من أدبيات التصالح، ولقد رأت القوى الملكية، رغم نسبية اعتقادها، أن تشابهاتها مع فئة كثيرة ممن تضم الحكومة الجديدة في بعدها القبلي سيؤدي في النهاية إلى عودتهم إلى سدة الحكم بالولاء والتشابه والذهب، ومن ثم الانقضاض بالاختلاف المسلح على هذه الثلة الجمهورية، لولا صعود ثلة من المغايرين في الشارع اليمني بمقاومته الشعبية، والجيش، من رحم الشعب والوطنية، لم يألوا جهدًا في الانتصار لليمن ورد السلالة والإمامة إلى جحورها في أقاصي الشمال. ناصب الأخوة القوميون ممن هم ضمن حركة القوميين العرب من اليمنيين، ومن البعثيين، بعضهم العداء الظاهر والباطن، في سبيل من تأكيد الاختلاف ونفي التشابه، وانتصبت من خلال هذه المعارك اشتباكات الإخوة الأعداء، وهي اشتباكات لا تقود إلى تخوينهم بقدر ما تومئ إلى اختلافات تأويلاتهم للنضال اليمني وتقديم التضحيات بحملهم أرواحهم على أكفهم يخوضون المعامع المهلكة بلا خوف أو رهبة من الموت، مستندين بظهورهم إلى روافع يعتنقون الإيمان بتشابهم معها، كما فعل حزب البعث إبان حركة ٥ نوفمبر ، باختياره التحالف مع القبيلة، ونبذ رفاقهم القوميين الحزبيين، وهذه إحدى مشكلات الجمهورية كما يشير البرفيسور حمود العودي، إن لم أستعمل السياق في غير سياقاته، وأشابهه بما آفاوض من أطروحات!
أدرك ناجي الغادر أن السعوديين بعد المصالحة مع الجمهورية قد حفروا لعلاقته بهم قبرًا، فصدح في وجههم بأنه إنما كان يحميهم بقتاله في الصف الملكي، مما أدى إلى مقتهم إياه وطرده من حماهم، ولأنه كان قد رسى على قناعة أن من في ركب الثورة من القبائل عشائره وزملاؤه لم يعد يشبهم أو يشبهونه فاتصل بجهة يمنية أخرى، شيوعيي الجنوب، آملًا في صنع تشابه جديد لم تؤتِ ثماره معه، فقد باين هؤلاء القبيلة والوجاهات الأسرية من مدة، وبالتالي أحرق وأكثر من ثمانين شيخًا فيما دعي بعد ذلك بمجزرة بيحان باستبسال في السعي نحو تشابه مأمول، وقد وقع هؤلاء المباينين للقبيلة في الجنوب في قبائلية عنيفة عقب ذلك حتى تم وسم عصبهم بالقبائل الماركسية. تتعاظم أمام مجرد المتتبع، ناهيك عن الفاحص المغربل، جبال من مآزق وأوحال التشابه المختلف، والاختلاف المفعم بالتطابق، في ممارسة اليمنيين هاتين الفعاليتين الخلاقتين فيما لو مورستا على طبيعتهما ووفق دينامياتهما، لا وفق الطريقة اليمنية، وتجييرها لصالح المنافع الشخصية، والانكفاءات الضيقة على غرض الغنيمة، ومن هنا، وهمَ اليمنيون، يبحثون طرقا مناسبة للوصول إلى الحل، انشدوا إلى فعالية، هي أسمى ما يميز الحركة الإنسانية، وهي الحوار، مدركين من لحظة الثورة الأولى ومع انطلاق أول شرارة للخلاف، أهمية الاحتكام إلى هذه الفعالية الإنسانية الراقية-الحوار، مستعملين إياها على طريقتهم، حتى لقد أفسد مضغها وإعادة تكرارها مسافات الود والتقارب اليمني-اليمني، ولذا لا عجبَ أن ننظر بريبة إلى أكوام إرشيفات مؤتمرات الحوارات الوطنية اليمنية، دون بناء بعضها على بعضها، وهذه واحدة من أعتى مشكلات اليمن الحديث، وأصعبها على المحللين والباحثين، لا على الإنسان العادي فحسب.
دأب المتحاورون اليمنيون على الاجتماع والائتمار لمناقشة اختلافاتهم والسعي لتعظيم التشابهات واستيعاب اعتراضات الجميع، إلى درجة أنه يمكن لجموع الباحثين قراءة تاريخ اليمن اليوم من خلال أسراب مؤتمرات الحوار والمصالحة اليمنية على امتداد القرن، آخذين في الاعتبار أن أول مؤتمر للحوار في اليمن يمتد تاريخه إلى العام ١٩٢٤م، متمحورًا في مشروع المفكر والمصلح والسياسي التونسي عبد العزيز الثعالبي، مؤتمر الحوار الوطني اليمني الشامل، الذي خاض من أجله غمار الطريق، وبرك الاختلاف اليمني، وعاد بخفي حنين! تعود مركزية الفعاليات الحوارية المفتعلة، وتضخمها، بحيث غدت ورمًا قاتلًا، إلى سيطرة نزعتي ما أشرنا إليه من تشابه واختلاف، لم يحسن العقل اليمني استثمارهما، ما يدعو إلى موضعة معضلات اليمن وإعادتها في كلها، إلا القليل منها، إلى ما ينبغي وسمه بــ" عقدة الحوار"، أمر كنا محورناه في – مقالة قديمة- في معضلة ملموسة هي الرغبة في "الحياة داخل الأداة"، فيما يتوجب أن تكون هذه الفعالية مجرد وسيلة مستخدمة للوصول إلى الحالة المثلى المناسبة للأمة، وكذلك الأمر بالنسبة للدولة، وهو كذلك بخصوص الانتخابات، التي لا تعدو كونها إحدى أدوات الديمقراطية؛ لا أن نقوم بانتخابات وننقضها في اللحظة نفسها، في امتداد لألعاب الطفولة وإعادة الصغار محاولات الفرز وانتخاب من يلعب، كلما خالف الحظ رغباتهم!
يتبع الحلقة الثالثة ...
-->