تقع اليمن باشتباكاتها الغريبة مع كل شيء في القلب من الالتباس الكلي للعوالم، إن لم تكن هذه البلدان المتواترة في كيان واحد بامتدادات عرقية وجغرافية عديدة هي حزم حزمات الالتباس نفسها! وهي كذلك في نظر كثيرين، ولعل هذه الأمواج من الالتباس تعود في جوانب عدة إلى أسباب وفواعل، مثل آفتي: التشابه المشبع بالتناقض، والاختلاف البين المنطوي على كبير تطابق، بمفهومهما اليمنيين!، ولعل من الطرافة، ونحن نشخص ما طرحنا، التقهقر صوب سردية قدمها أحد المشاركيين المصريين في حرب اليمن، وهو صلاح الدين الحديدي صاحب كتاب "شاهد على حرب اليمن"، يشير فيها صاحبها إلى أن جزءًا مهما من أسباب فشل لجنة مراقبة الانتهاكات بين القوات الجمهورية والملكية، التي أقرها كل من عبد الناصر وفيصل، هو تشابه اليمنيين في الزي، فــ"كون اليمنيين يتشابهون في الزي الذي يرتدونه عامةً من كلا الطرفين؛ جمهوريين وملكيين، جعل من الصعب تحديد الجهة التي تخرق الاتفاق( )، وهكذا دواليك!
وإذ يتذكر - المتابع مع استثارتنا لمسألتي التشابه والاختلاف ميمننيين، سيتذكر ديناميات هاتين الفاعليتين النظريتين والممارسيتين في حوادث جمة سابقة حتى لثورة سبتمبر المجيدة ومثال ذلك ذهاب بعض الجمهوريين قبل سبتمبر إلى إحدى السفارات في اليمن عارضين على السفير تبني إقامة جمهورية إسلامية بديلة لمملكة الإمام التي تضع حركتها على هذا المزلاج في اقتران زائف، وهو عرض تطور إلى مرحلة لاحقة مع من سموا بعد دورات الصراع بعد قيام الجمهورية بالقوة الثالثة، سواء ممن تأكدت جمهوريتهم أو اتخذوا التجمهر مطية سهلة لمآرب أخر، إلى تصدير خطاب التشابه، حين طرحوا للملك فيصل دعم قيام دولة إسلامية في اليمن، فاقتنع به وتبناه مع معاهدة الطائف أغسطس ١٩٦٥م، فلقد تبنى الملك فيصل الطرح بكل قوة إلى درجة خلقت شروخًا كبيرة بينه وبين حلفائه آل حميد الدين، بل لقد تحنبل فيه، وربما كان تبنى السعودية لإقامة وعقد مؤتمر إسلامي، ما رأى فيه جمع من ذلك العهد القريب مجابهة منظمة لمشروع القومية العربية الناصري خاصة، ولعبد الناصر تحديدًا، ربما كان هذا التبني امتدادًا لمشروع الدولة الإسلامية المصدر من قبل المنشقين الجمهوريين اليمنيين للملك فيصل، والذي بلا ريب قد صادف هوى في نفسه، إن علمنا مدى انزعاج السعودية حينها من تدخل ناصر في اليمن ، واقترابه من الحدود السعودية، التدخل الـــيمني المنشأ.
مثلت اليمن إذن، كعادتها في التاريخ، مضامير صراع ليست إقليمية فحسب، بل دولية، وهو ـــ اليمن حلبات صراع ـــــــــ لا يتعلق باليمن مكانًا يزخر بالغليان فقط، إنما بكل ما يتعلق بكل المتاهات اليمنية، ومن ذلك اليمني نفسه-اليمنيون أنفسهم، فمثلما عاشوا مشاعل خصب ونماء وولادة، تواتروا ساحات صراع واحتدام، ومن هذا تمثيلا ، وكما روي تاريخيًا، من تمثيلهم-اليمنيين، وقودًا لمعركة إسلامية تاريخية هي صفين حيث توزعوا على جانبي الصراع؛ معاوية-علي، مناديًا كل طرف منهم : يا علي يا معاوية، أخرجا لنا نظراءنا من قومنا، وقل مثل هذا عن اندماجهم في الدولة الأموية الوليدة من بعد صفين، وحتى تنصيبهم عبد الرحمن الداخل أميرًا على الأندلس وما بين ذلك من إجهازهم على الوليد ابن يزيد أحد آواخر الخلفاءالأمويين بالشام، وقاتله اليماني يصرخ: خذها من يد اليمانية، وقد اشترك خوارجهم في قتل الخليفة عثمان، ومن بعده الحسين وغيرهما، كما ضمنوا ولاية مصر لمعاوية عن طريق معاوية بن حديج السكوني، ومثل هذا وافر ، وغزير تثبته الكتب وتلهج به ألسنة الرواة عبر التاريخ.
ومما لا مندوحة عن ذكره وتسجيله، جريانًا مع سرد تشابهيات واختلافيات اليمن، هنا إطلاعي على رسالة من المناضل اليمني أحمد محمد نعمان إلى أمير الكويت قبل قيام مجلس التعاون الخليجي بزمن، يقترح عليه فيه الدعوة لإنشاء مجلس التعاون الخليجي، فالمسلمون إخوة وهم متشابهو الظروف والأحوال يقينًا!، وتجري فعليات التشابه والاختلاف بالمفهوم السالف ذكره في دماء وتحركات وحيوات اليمنيين، وهي في مضياتها هذه وتلك تمثل منظومة من أفعل معضلات وتأزمات اليمن واليمنيين، من الحري بالفاعل اليمني، من أدنى درجاته الإمكانية حتى أعاليها، استغلال إنتاجياتها لصالح هذه الفضاءات المشتعلة على الدوام، والإفادة من دفعها اللامحدود، مهما حاول مستفيد خارجي كبح ذلك وعرقلة البناء على فوراناته العاصفة، من أجل أطروحاته ومآربه، ومن هنا تصدرت المخاوف من الالتئامات اليمنية الحادة والمفاجئة، قائمة محاذير المستفيدين من بقاء الوضع على ما هو عليه، وتأجيج حيثياته، بالاستبسال الدائم في صب النار والغاز والحرائق عليها.
غصَّ بالصفات اليمنية هذه ومتوالياتها من قبل جمال عبد الناصر نفسه، وخصمه فيصل، كما مات غيرهما شرقًا بها، ومع محاولة استبانة ذلك تتبدى للعيان قطعان من البراهين والأدلة والحجج، وخير شاهد على ذلك اللقاء الحميمي لليمنيين في مؤتمر حرض نوفمبر ١٩٦٥م، بعد زمن من اقتتال الجمهوريين والملكيين منهم "الأمر الذي أدى إلى فزع القوى المراقبة من المصريين والسعوديين؛ لذا بدأت بعزل الوفدين عن بعضهم البعض بأسلاك شائكة للحدِّ من اللقاءات المتكررة والتي قد تؤثر على سير أعمال المؤتمر"، على الرغم من عثور الجمهوريين بعدها على أنفسهم مكبلين "أمام الأمر الواقع وهو أن التعاطف النفسي للقوى الملكية كان مجرد شعور وطني مؤقت، عندما بدأت تطرح القضايا في الجلسات الأولى .."، ولعل من الطريف في فعاليات سير جلسات مؤتمر حرض هذا، أن الجمهوريين بعدما أخل الملكيون بالاتفاق معهم في أن يضمن المؤتمر خمسة شخصيات من الجمهوريين المنشقين، وأتوا بنصف العدد، إرسال الجمهوريين إلى صنعاء طالبين بعض المشايخ المنشقيين ليضموهم للوفد الملكي خصمهم الجدلي هنا!
يتبع الحلقة الثانية ..
-->