في خضم الصراع اليمني المعقّد، يبرز تدخل دولة الإمارات العربية المتحدة في اليمن عبر نماذج وتجارب متعددة ومتناقضة.
فهي تدّعي الانفتاح والتقدم والعلمانية، لكن أدواتها على الأرض تتنوع بين تيارات متشددة وأخرى منفتحة؛ فتدعم تشكيلات سلفية مثل "العمالقة"، رغم تشددها، وفي الوقت نفسه تعادي "التجمع اليمني للإصلاح" – الحزب السياسي القانوني الملتزم بالدستور – بحجة أنه إسلامي.
كما تدعم "المجلس الانتقالي الجنوبي" الذي يسعى للانفصال، ولو كان الثمن التطبيع مع دويلة إسرائيل، وتدعم أيضًا "المقاومة الوطنية" بقيادة العميد طارق صالح الآتي من النظام القديم، والذي يقدم نموذجًا مختلفًا يُوصف بأنه الأنجح بين تلك التجارب الإماراتية في اليمن.
قد يبدو أن سياسة الإمارات في اليمن تمثل حالة من الدعم العشوائي، أو أنها تمثل استراتيجيات متعددة تهدف إلى تحقيق مصالح متناقضة.
فبينما تدعم تيارات مختلفة – من المتشددين إلى المنفتحين، ومن الانفصاليين إلى الجمهوريين – هل هي فعلاً تفتقد إلى بوصلة واضحة في سياستها؟ أم أن هناك وجهين استراتيجيين تعمل من خلالهما الإمارات، يسعيان لتحقيق أهداف متباينة تتماشى مع الواقع المعقد في اليمن؟
أما "العمالقة"، فقد خاضت العديد من الحروب ولم تخرج منها إلا منتصرة، إذ يُعتمد عليها في الحسم العسكري. غير أن العيب الأكبر في هذا التشكيل يكمن في أنه بُني على أساس جغرافي، لا على قاعدة وطنية جامعة. ومؤخرًا، انحاز قائده وانضم إلى "المجلس الانتقالي"، ما أفقده حياديته وموالاته المفترضة "للوالي"، بحسب المفهوم السلفي.
أما نموذج "المجلس الانتقالي"، فقد أثبت فشله رغم مظاهر السيطرة والهيمنة. فهو نموذج مصلحي، ارتدادي، انفصالي، عنصري، يقوم على إعادة ترتيب وتوظيف المنتسبين إليه ضمن بنية قبلية ومناطقية، ويتخذ من محاكاة المؤسسات الغربية واجهة زائفة – كحال "اللجنة التحضيرية لمجلس شيوخ الجنوب العربي" المشكلة مؤخرًا – دون أن يرافق ذلك أي مشاريع تنموية حقيقية تُذكر منذ تشكله في 11 مايو 2017، كتلك التي تُرى في المخا والساحل منذ ثلاث سنوات فقط.
نموذج "المخا" يمثل تجربة محلية ملهمة، انطلقت من مدينة منسية ومهمّشة رغم موقعها الاستراتيجي والتاريخي باعتبارها ميناء البن اليمني ، لتصبح مدينة نابضة بالحياة والمشاريع. فقد شهدت خلال السنوات الثلاث الأخيرة نقلة نوعية: تحسين البنية التحتية، تأهيل الميناء والمطار، تطوير الخدمات الصحية والتعليمية، وإطلاق مشاريع في الطاقة والتنمية وبناء مدن عمرانية.
هذا التحوّل لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة دعم إماراتي مباشر، وجهود العميد طارق صالح، الذي ركز على الأداء الفعلي لا على الشعارات، بعكس بقية التجارب التي تتغذى من نفس الداعم.
ما يثير الحيرة هو أن سياسة الإمارات في اليمن تقوم على دعم نماذج متناقضة، من المتشدد إلى المنفتح، ومن الانفصالي إلى من يرفع راية الجمهورية...ترى لماذا؟
ولماذا لا تُعمم تجربة "المخا"، وهي الأكثر تميزًا؟ ثمّ لماذا لا يُستنسخ نموذج التنمية، والمؤسسات، وبناء الدولة، بدلًا من تقوية مراكز النفوذ والسيطرة الجغرافية التي أثبتت فشلها؟
هذا التساؤل يبرز في ظل خروج أبناء حضرموت يوم أمس السبت، للمطالبة بحكم ذاتي بعد أن اختبروا جميع الأطراف، فوجدوا أنهم صانعو حروب ومفتعلو أزمات، وليسوا ممن يهتمون بالتنمية والتطوير.
نعم! لقد تحولت "المخا" إلى وجهة للمسؤولين والقادة السياسيين، وربما يُراهن عليها لتكون منطلقًا لتحرير ما تبقى من محافظة تعز واستعادة الحديدة وموانئها، تمهيدًا لتحرير العاصمة صنعاء. وليس فقط تحرير تعز عبر الحلول العسكرية، بل ومن خلال فك حصارها سيء الصيت وربطها أيضًا بالعالم، كفكرة إنشاء جسر بحري يربط المخا بجيبوتي.
وأنا أكتب عن هذه التجربة، لا يمكنني أن أغفل المطالب الحيوية لتعز، وأبرزها المطالبة بمشروع تحلية للمياه لإيصالها إلى مدينة تعز، التي تعاني من شح شديد يهدد صمودها الإنساني والتنموي. فهذه المشاريع تُعد أولوية لا تقل أهمية عن المعارك.
لقد أثبتت "المخا" أن اليمن يمكن أن ينهض حتى في ظل الحروب إذا توفرت الإرادة والمنهج والدعم. وبناء الدولة يبدأ من الناس، من الأرض، من المؤسسات. لن تنهض اليمن إلا بمنطق الدولة والمؤسسات، لا بمنطق الولاءات والانقسامات. إنها تجربة يجب دراستها وتعميمها، لا استغلالها سياسيًا أو تجاهلها.
وعليه، على دولة الإمارات العربية المتحدة أن تُجري مراجعة جادة لسياستها في اليمن، وتُعمم النموذج الأصلح لمصلحة اليمن أولًا، ولمصلحتها ثانيًا.
فاليمن لن تقوم إلا بمنطق الدولة، لا بمنطق تقاسم النفوذ، ولن تُبنى إلا بالمؤسسات، لا بالولاءات، ولن تتقدم إلا بالعدالة، لا بالإقصاء، ولن تنجح إلا إذا انطلقت من الناس وإليهم، لا من فوقهم أو على حسابهم.
وختامًا، على الإمارات أن تُدرك أن دعم نموذج واحد ناجح ومثمر، كالمخا، هو أكثر نفعًا وأقل تكلفة من توزيع الدعم بين كيانات متصارعة ومتناقضة، قد ترتد في يوم من الأيام عليها، كما يحدث اليوم في حضرموت ضد أتباعها، أو كما يحدث ضدها في السودان.
-->