خاطرة جمعة (2) ما بعد رمضان... "تدبّر" ما يُحبّه الله وما لا يُحبّه في السياق القرآني

د. علي العسلي
الخميس ، ١٠ ابريل ٢٠٢٥ الساعة ٠٩:٢٤ مساءً

 

من الآيات البديعة التي تكشف لنا عمق محبة الله لعباده وسلوكياتهم، قوله تعالى:

"وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَحْسِنُوا، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (البقرة: 195)،

وقوله عزّ وجل:

"الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران: 134).

هاتان الآيتان تمثلان منهاجًا إيمانيًا متكاملًا، يرسم حدود السلوك الذي يحبه الله، ويوجّه النفوس المؤمنة نحو التزكية والسمو، ويضع أساسًا متينًا للعلاقات الفردية والاجتماعية في إطار من الرحمة والتكافل والأخلاق.

أولًا: الإنفاق في سبيل الله

ليس مجرد عبادة مالية، بل هو أداة لحماية المجتمع من التهلكة، وتحصين للأمة من الفقر والجوع والتفكك والفتن. فالامتناع عن العطاء في أوقات الشدة لا يُعد بخلًا فحسب، بل هو إلقاء بالنفس إلى الهلاك الجماعي، وإخلالٌ بميزان التوازن المجتمعي.

ثانيًا: الإحسان في الإنفاق

وهو أن يكون العطاء خالصًا لوجه الله، خاليًا من المنّ والرياء، موزونًا بالحكمة، وموجّهًا إلى مستحقيه. فليس كل إنفاق محبوبًا، بل المحبوب هو ما اقترن بالإحسان؛ أي الإتقان، والنية الصادقة، وترتيب الأولويات.

ثالثًا: كظم الغيظ

وهو من دلائل رقي الإيمان، إذ أن الغيظ شعور فطري، لكن كبحه وكظمه لا يقدر عليه إلا من زكّى نفسه، وغلب إيمانه طبعه. فكظم الغيظ يعني كسر دورة الغضب، وقطع سلاسل الانتقام، وهو صمام أمان اجتماعي لا يمتلكه إلا القليل.

رابعًا: العفو عن الناس

وهو الوجه الآخر للكرم، لكنه كرم أخلاقي يسمو فيه الإنسان على ردّ الإساءة بمثلها. العفو يداوي القلوب الجريحة، ويعيد وصل ما انقطع، ويصلح ما فسد بين الأهل والجيران والأوطان.

خامسًا: الإحسان العام

وهو قمة القيم، وتاج المنظومة الأخلاقية: أن تُحسن في القول والعمل، تعطي بكرم، تعفو برقي، تصل من قطعك، وتحسن حتى لمن أساء إليك، لا ضعفًا ولا خنوعًا، بل طمعًا في حب الله ورضوانه.

هذه المنظومة التوليفة الربانية، حين تُفعل في الواقع، تتحول من آيات إلى حياة، ومن خطاب إلى سلوك، ومن قيم إلى نهضة.

وفي واقعنا اليمني والعربي، حيث الحروب أنهكتنا، والصراعات مزقت مجتمعاتنا، والمآسي أرهقت أرواحنا؛

 

 نحتاج أن نستلهم هذا المنهج الرباني، نحتاج إلى إنفاق لا رياء فيه، وكظمٍ للغيظ لا حقد فيه، وعفوٍ يفتح أبواب التصالح، وإحسانٍ يعيد ترميم القيم والأوطان.

فما أحوجنا اليوم إلى توليفة المحبة الربانية، تلك التي إذا اجتمعت في عبدٍ، صار محبوبًا عند الله، نافعًا لعباده، مصلحًا في الأرض، مستحقًا لحسن الجزاء في الدنيا والآخرة.

دعاء الختام:

اللهم اجعلنا من الذين يُنفقون في السراء والضراء،

واجعلنا من الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس،

واجعلنا من المحسنين الذين أحببتهم وقرّبتهم إليك يا أرحم الراحمين.

اللهم طهّر قلوبنا من الضغائن، ونقِّ نفوسنا من الأحقاد،

وافتح لنا أبواب الرحمة والعطاء، وألهمنا الإخلاص في كل عمل،

واجعلنا من الذين يُصلحون ولا يُفسدون، ويُحبّون ولا يكرهون،

اللهم أصلح حالنا، وحال بلادنا، وحال أمتنا،

وارزقنا من واسع فضلك رزقًا طيبًا مباركًا،

ووفّقنا لما تحب وترضى، واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر.

آمين، والحمد لله رب العالمين.

وجمعة مباركة...

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي