إن الدين الإسلامي العظيم وهو يُقِر بحرية العقيدة ، ويجعلها من ضمن حريات الإنسان وحقوقه في هذه الحياة ، ينطلق من منظور رباني واسع وشامل بهذا الخصوص ، بعكس الرؤية القاصرة والضيقة لبعض الاجتهادات والأفكار البشرية ذات الصلة ، وهناك فارق شاسع وكبير جداً بين المنظور الرباني الواسع والشامل ، وبين الرؤية البشرية القاصرة والمحدودة ، ولا وجه للمقارنة أبداً بين هذا وذاك ، فالأول صادر عن قدرة إلهية لا محدودة ، قدرة لا يحدها زمان ولا مكان ، بينما الثاني صادر عن قدرة عقلية بشرية محدودة بحدود الزمان والمكان ، ومن هذا المنطلق يمكننا الحديث عن المنظور الإسلامي الوسطي الرباني الشامل لحرية العقيدة ، والذي ينظر من حيث المبدأ إلى أن الإنسان في هذه الحياة ، في حالة إبتلاء وإختبار ، قال تعالى (( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا )) ' وحتى يكون هذا الاختبار عادلاً ، لا بد من توفر عدد من الشروط.في مقدمتها منح الٱنسان القدرة على الإختيار والتمييز ، وقد منح الله تعالى الإنسان هذه القدرة ، من خلال تزويده بالعقل البشري ، الذي يمنحه القدرة على التمييز بين الخير والشر ، بين الحق والباطل ، بين الإيجابي والسلبي ، بين الهداية والضلال ، ومن شروط الإختبار العادل ، أن يكون هناك منهجاً شاملاً موضحاً فيه أبعاد وأهداف وغايات وشروط الإختبار ، وموضحاً فيه أيضاً طريق الفوز والنجاح ، وطريق الخسارة والفشل ، وبالفعل تم منح الإنسان هذا المنهج الشامل والكامل ، عن طريق الرسالات السماوية ، التي جاء بها رسل الله تعالى ، والتي تحتوي على منهج متكامل وشامل بهذا الخصوص ..!!
وبعد منح الإنسان المختبر في هذه الحياة ، القدرة على الإختيار والتمييز بواسطة العقل ، ومنحه المنهج الشامل والكامل للإمتحان ، يأتي الشرط الثالث والمتمثل في ضرورة تسخير كل الامكانيات التي تهيئ له الظروف المناسبة لاجتياز ذلك الاختبار ، وبالفعل سخر الله تعالى للإنسان كل ما في هذا الكون لمصلحته من سماء وأرض وموارد وخيرات وحقوق وحريات ، وفي مقدمة تلك الحريات حرية العقيدة قال تعالى (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )) ' أمر واضح وصريح لغوياً وفقهياً لا مجال فيه للتفسير أو التأويل أو الاجتهاد ، وللتأكيد على ذلك جعل الله تعالى موضوع العقيدة شأن خاص بالإنسان نفسه ، لا يمكن لأحد الإطلاع عليه ومعرفته غير الإنسان نفسه وخالقه ، أمر متعلق بقلب الإنسان وسريرته وعقله ووجدانه وقناعاته ، أمر لا يمكن أن يكون للقوة والعنف والإجبار والإكراه سبيلاً إليه ، أمر خاضع لمشيئة واختيار الإنسان نفسه ، قال تعالى (( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )) ' من أجل ذلك جعل الله تعالى طريق الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ، قال تعالى (( إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة )) ..!!
وفي الفلسفة الإسلامية بشأن حرية العقيدة ، تتجلى عظمة الدين الإسلامي ، فالله تعالى ليس في حاجة لعبادة الإنسان ، فعبادته لله لن تزيد في ملكه شيء ، وكفره بالله لن ينقص من ملكه شيء ، والمستفيد الوحيد من الإيمان بالله هو الإنسان نفسه ، فهو بذلك ينقذ نفسه من السقوط والفشل والهلاك والعذاب ، ويفوز بالنعيم الأبدي ' والعكس صحيح ، وتأكيداً على حرية العقيدة في المنهج الإسلامي ، جعل الله تعالى مهمة الرسل عليهم السلام ، هي الدعوة والبلاغ فقط ، قال تعالى (( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر )) ' وقال تعالى (( فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد )) ' ولو كان الأمر أمر إجبار وإكراه ، لكان رُسل الله تعالى أولى بذلك ، ولكانت مهمتهم لا تقتصر فقط على الدعوة والبلاغ ، بل تشتمل على الإكراه والإجبار ، وهو ما يتناقض جملةً وتفصيلاً مع قوله تعالى (( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )) ..!!
وفوق هذا وذاك وللتأكيد وقطع الشك باليقين ، لو كان أمر العقيدة أمر ذات علاقة بالقوة والإجبار والإكراه ، لكان الله تعالى خلق الناس وجبلهم على عبادته ، كما هو الحال مع الملائكة عليهم السلام ، لأن الله تعالى الذي خلق الإنسان على هذه الهيئة والجبلة التي هو عليها مختار غير مجبر ، قادر سبحانه وتعالى على خلقه بأي هيئة وجبلة يريد ، ورفض البعض لحرية العقيدة ، وإجتهاداتهم القائمة على إكراه وإجبار الناس في هذا الخصوص ، فيه اعتراض على إرادة وقدرة الله تعالى ، الذي خلق الإنسان بهذه الهيئة والجبلة المختارة وليس المجبرة والمكرهة ، ولدحض كل الآراء والأفكار البشرية ، التي ترفض حرية الإنسان في إختيار عقيدته ، وتدعوا إلى الإجبار والإكراه والعنف والإرهاب في هذا الخصوص ، جعل الله تعالى الجزاء والحساب بشأن العبادة والعقيدة من اختصاصه وحده جل شأنه ، قال تعالى (( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن أتقى )) ' فكيف موقف هذا الإنسان أو ذاك ، وهو يُزَّكي غيره ، أو وهو يُكفِّر غيره ، أو وهو يمنح صكوك الغفران لغيره ، أو وهو يمنح مفاتيح الجنة لغيرة ' وهو لا يمتلك القدرة على تزكية نفسه ، ومما سبق يتضح جلياً بأن الحرية الدينية تمثل الاستجابة الطبيعية والفطرية والشرعية والعقلية مع فلسفة الإسلام لوجود الإنسان في هذه الحياة ، وأهداف وغايات هذا الوجود ..!!
-->