يعلم جميع اليمنيين أن الحوثية الإرهابية كانت تقود تنظيماً سرياً يعمل في الخفاء منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبدأت شعاراتها تظهر في جدران ومنافذ صنعاء المختلفة منذ منتصف التسعينيات، إلى أن جاء العام 2004 لتفجر حروب صعدة الستة ضد الدولة، والتي كانت بمثابة مخاتلة سياسية للتلاعب بالوطن ومصالحه لتحقيق أجندة سياسية داخلية في إطار صراعات المؤسسة العسكرية لأسرة صالح الداخلية لتصعيد جناح فيها وإسقاط آخر؛ فقد كان ظاهرها التصدي للحوثية التي دعمها صالح من الأساس باعترافه هو، والتسجيلات لخطاباته موجودة حتى اليوم، لكنها في الحقيقة كانت توطئة وتمهيداً عملياً تدريبياً لإخراجها إلى الميدان ليتم تقويتها لا لإنهاء تمردها بل لإعدادها ضد الفريق علي محسن والإصلاح، في إطار التلاعب بالجماعات والأحزاب، وكل من كان في ميدان تلك المعارك يعرف ذلك يقيناً، وتم التضحية بكثير من الجنود والضباط في تلك اللعبة، وكان من بينهم زملاء ميدان ورفقاء سلاح.
أقولها بملء الفم: أنها كانت لعبة أساسية منذ البداية لم يصدق فيها الرئيس صالح؛ فقد كانت موجهة في الأساس ضد الفرقة وعلي محسن وضد الوطن، وهو الأمر الذي تكشف تباعاً من خلال العديد من الوقائع ومن بينها تحالفهما الانقلابي ضد الدولة 2014. أقول ذلك لا على سبيل المكايدات ولا التشفي ولا عن جهل؛ فقد كنت مراقباً لتلك الأحداث أولاً بأول ومطلعاً عليها وعشت كثيراً من أحداثها وتفاصيلها، وكنت أحد المنتسبين للواء المدفعية في صعدة، وتركت العسكرية كلها عندما أدركت ذلك التلاعب المقيت لألتحق بالإعلام. بعدها ظهرت الاحتجاجات الجنوبية في 2007 الذي سمي الحراك الجنوبي ضد صالح في مطالبهم العادلة نتيجة التهميش والإقصاء، وصولاً إلى احتجاجات 11 فبراير 2011، التي شارك فيها كل اليمنيين وليس محافظة بعينها.
كل هذه الاحتجاجات والأزمات غض الجميع الطرف عنها، بما في ذلك صالح وحزبه وجمهوره، وذهب الجميع يحمل تعز وزرها والتحريض عليها وإقامة الحروب المختلفة عليها، باعتبارها مفجرة الثورة ضد صالح! في حين إن الحقيقة التي يتغاضى عنها الجميع أيضاً هي أن الاحتجاجات كانت مستمرة في صنعاء وعدن قبل تعز نفسها؛ فالحوثيون كانوا يقودون الحرب على الدولة ويتمردون في صعدة ويقتلون المواطنين والجيش، وعمقهم الطائفي والجماهيري والسياسي في صنعاء يقيم المظاهرات والاحتجاجات أيضاً والتنظيمات والتنسيقات الميدانية من تحت الطاولة!
في 2011 كان كل شيء قد وصل إلى طريق مسدود مع صالح، على الرغم من الحوارات والاتفاقات السابقة كلها في 2009، و2010، حتى وصل الأمر برئيس الكتلة البرلمانية للمؤتمر الشعبي العام والأمين العام المساعد سلطان البركاني التصريح بقلع العداد ضد كل ما تم التوافق عليه في العملية السياسية منذ تحقيق الوحدة وحتى ذلك العام، ولم يأت مساء 11 فبراير إلا واليمنيون جميعهم يترقبون ما ستؤول إليه أوضاع الاحتجاجات في مصر، وما إن أعلن الرئيس حسني مبارك تنحيه عن الحكم تلك الليلة حتى كانت شوارع العاصمة صنعاء مكتظة بالجماهير المطالبة صالح بإصلاح النظام ابتداءً لا بتغيير النظام!
بعد ذلك تصاعدت الأمور، وكان صالح يقمع الجماهير بكل عنف على الرغم من كثير من المحاولات والحوارات معه لإصلاح الأوضاع والخلل في السلطة لا مطالبته بالتنحي كبقية الدول، ولم تطالب الجماهير صالح بالتنحي إلا بعد مجزرة جمعة الكرامة الرهيبة بحق المصلين وهم يصلون الجمعة، ولم تكن ثمة مسيرات ولا اعتداءات ولا أسلحة ولا غيرها، وشاهد العالم أجمع تلك المجزرة الرهيبة بحق مصلين عزلاً من أية أسلحة، في حين كان التحريض الإعلامي على أشده ضد شباب الساحة من قبل الحزب الحاكم حينها وصولاً إلى استئجار بلاطجة يعتدون على الساحات على أنه خارج المؤسسة الأمنية لكنه كان في إطار الحزب المعروف، وبعض المجاميع كان يقودها حافظ معياد الذي وجدته شخصياً يقود أول المجاميع ضد المتظاهرين ليسقطوا أول شهيد في تلك الاحتجاجات وهو الشهيد عوض السريحي.
بعد مجزرة جمعة الكرامة في 2011 انضمت خمس مناطق عسكرية للثورة برجالها وعتادها، ومع ذلك تكون الحملات: أصحاب تعز هم السبب! مئات الشخصيات الكبيرة والفاعلة في الدولة انشقت عن صالح بمن فيهم أقارب صالح نفسه وأصهاره وأركان أسرته وأعمدة حكمه، حتى الأب الروحي للمؤتمر الشعبي العام (عبدالكريم الإرياني) كان ضمن المنشقين، وإن لم يصرح في البداية، إلا أنه أكد ذلك في نهاية المطاف، ووقف مع الشعب ضد عفاش، ومع ذلك تسمع من يقول: أصحاب تعز هم السبب!
وهنا موقف أسجله للتاريخ، من أحد أهم صانعي التاريخ اليمني الحديث، من حوار دار بيني وبينه شخصياً، هو الفريق علي محسن صالح، النائب السابق لرئيس الجمهورية، على الرغم من اختلافي معه حول جزئية محددة من شهادته على هذا اليوم الرهيب في تاريخ اليمن الذي لن ينساه اليمنيون.
يقول النائب السابق علي محسن: حتى يوم جمعة الكرامة كان المحتجون يطالبون الرئيس صالح بإصلاح النظام لا بتغييره. "ذهبت إليه قبل ظهر ذلك اليوم؛ قبل المجزرة، بمقترح حل كامل هذه المشكلة والخروج بحل عملي يقي اليمن الانزلاق إلى مربع الفتنة والأزمة. كان هذا الحل يتمثل في تقاسم الحكومة بين المؤتمر الشعبي العام وأحزاب اللقاء المشترك النصف بالنصف، ويكون رئيس الحكومة هو من طرف المعارضة المتمثل في اللقاء المشترك، وهو الحل الذي اعتمد فيما بعد في المبادرة الخليجية التي بموجبها تنحى صالح عن السلطة. لكن وبينما أنا في القصر الجمهوري معه في ذلك اليوم حدثت المجزرة للأسف، وتم إنهاء ذلك الحل والمقترح. يبدو أن طرفاً ثالثاً استغل هذا الأمر وكان لا يروقه الحل فقام بالمجزرة التي قضت على الحل، وحصل ما حصل"!
قد يبدو سبباً وجيهاً أن طرفاً ثالثاً قام بهذه المجزرة، خاصة إذا ما أدركنا أن الحوثيين يومها كانوا متربصين بالفعل ولم يسقط لهم قتيل واحد في ذلك اليوم في تلك المجزرة الرهيبة، باستثناء الحادثة المصادفة لعيسى أحمد الشامي وهو يخرج من بيته قريباً من جولة شارع 20، بحسب ما حدثني أحد أصدقائه وجيرانه، وهي قرينة تنم عن مشاركتهم فيها، كما هو الحال في تفجير جامع النهدين الإرهابي في بداية يونيو من نفس العام، لكن هذا الأمر تدحضه الوقائع والمشاهد على الأرض؛ فقد كانت طائرة هليوكوبتر يستقلها طارق عفاش –حسب ما علمنا- تحلق فوق المصلين في تلك الأثناء عند ارتكاب المجزرة، وهي طائرة لا تمتلكها إلا السلطة في إطار الجيش، ناهيك عن اعتراف المشاركين في المجزرة أنهم من قبل السلطة، وكان منزل محمد علي محسن الأحول، قائد البحث الجنائي بأمانة العاصمة، يؤوي القناصة الذين ارتكبوا المجزرة وتوزعهم في أكثر من عمارة على الساحة بما فيها سطح البنك اليمني للإنشاء والتعمير، ناهيك عن أن محافظ صنعاء حينها الشيخ نعمان دويد كان ليلتها يوزع القناصة والمليشيات في البنايات المجاورة، وأنا شاهدته بنفسي ولم يدر بخلدي أنهم يعدون لمجزرة بحق الشباب المتجمعين للصلاة، وقد اعترف لنا شخصياً أناس ممن شاركوا فيها بأنهم من قبل المؤتمر، وبإيعاز من السلطة حينها!
لم تكن ساحة تعز استثناءً ولا الوحيدة في الثورة والاحتجاجات؛ فقد كانت كل المحافظات فيها ساحات احتجاجية في صنعاء، وحجة، ومحافظة صنعاء، وعمران، وإب، وذمار، وعدن ولحج وحضرموت وحتى سقطرى، فلماذا تم تحميل تعز وحدها كل تلك الاحتجاجات والتضحية بها والتحريض عليها لتدفع الثمن فيما بعد؟!
في تلك الأثناء كانت كل الحملات الإعلامية العفاشية وتصريحات عفاش تصب جام غضبها فقط على ساحة تعز، وتحرض عليها أكثر من غيرها طيلة الفترة الماضية، حتى كانت هي الوحيدة من كل الساحات التي دفعت أثماناً باهظة؛ حيث أقدمت كل أجهزة صالح الأمنية -بكل فروعها- بقيادة مدير الأمن في تعز العميد عبدالله قيران، وكذا الوحدات العسكرية من اللواء 33 مدرع بقيادة عبدالله ضبعان، إلى الدفاع الجوي إلى الحرس الجمهوري، إلى غيرها من البلاطجة المستأجرين وقيادة المؤتمر الشعبي العام برئاسة وقيادة جابر عبدالله غالب - رئيس فرع المؤتمر بتعز، الذي يعمل اليوم مع مليشيا الإرهاب الحوثي، وكذلك محمد الحاج - الأمين العام للمجلس المحلي بالمحافظة، ومحمد منصور الشوافي - وكيل المحافظة، وهو الآخر اليوم متحالف مع الإرهاب الحوثي ويعمل مدير عصابة مسلحة وخاصة ضد جبهة الشقب، وكذلك ومدير مديرية القاهرة ومدير أمنها أحمد عبده سيف؛ كلهم شاركوا بقتل المتظاهرين وإحراق الساحة وبعض ساكنيها، وتم اقتحامها من كل اتجاه لتعقبها حرب تدميرية لمدينة تعز تقل قليلاً عن دمارها في عهد الانقلاب الذي كان عبارة عن استكمال ما تم نقصانه في ذلك العام، لم تسلم منها النساء المصليات التي تم قصفهن بالدبابات لتسقط النساء شهيدات في صلاة الجمعة يوم 11/11/2011.
في خضم تلكم الجريمة الشنعاء، وبعيداً عن كل المعايير الأخلاقية والإنسانية وحق المواطنة والأخوة اليمنية، خرج أعوان صالح وحزب المؤتمر الشعبي العام في صنعاء يحتفلون بمجزرة ومحرقة تعز ويحرضون على البقية في مسيرات وعبر إعلام الدولة المصادر من أجندة صالح الأسرية، ويطلقون الأعيرة النارية في صنعاء وغيرها من المحافظات، وكانوا في صنعاء تحديداً يوجهون الرصاص باتجاه المعتصمين في ساحة التغيير وسقط شهداء كثر جراء تلك الأعيرة النارية، كنت شاهداً عليها وأراقبها وأبدي أسفي عليها، وأضيفت جريمة أخرى إلى جريمة المحرقة!
استمر ذلك الحقد والتعبئة ضد تعز وبشكل مستمر حتى الانقلاب الذي وجه الحوثي وصالح كل قواتهما باتجاه تعز ليصبوا حقدهم الطائفي والمناطقي العنصري عليها كأكثر المحافظات تدميراً، وكان تسجيله الأشهر ضد تعز أنه سيسوقها بطقم عسكري، في حين كررها أبو شوارب أنه سيسوق مبنطلي تعز بالعصا، ليكررها صالح بتسجيله المصور المحرض على تعز واعتبار كل مواطنيها دواعش "دقوهم بالقناصات، بالميدي إف، بكل أنواع الأسلحة..من يقاتل في تعز دواعش، ومن في المخا دواعش..هناك رجال سيدقوهم بكل أنواع الأسلحة"!
هناك أشياء كثيرة دارت وتدور خلف الكواليس على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، جعل الجميع من تعز ساحة تصفية حسابات، وقدمت قرباناً وأضحية في مذبح الجمهورية والوطن والمشاريع التقسيمية والأجندة الخاصة غير الوطنية، وهو ذات الأمر اليوم الذي أريد لها في أن لا تتحرر بشكل كامل، وأن تقسم ثلاثة أقسام بين الحوثيين الممثلين للمشروع الإيراني، والشرعية الممثل الوحيد للجمهورية والمشروع اليمني، وطارق عفاش الذي يمثل الامتداد الإقليمي للإمارات ومن خلفها. ... يتبع
-->