الدواشن من الهامش إلى تصدّر المشهد: رصد تاريخي لظاهرة اجتماعية

عبدالباري علاو
الاثنين ، ١٤ ابريل ٢٠٢٥ الساعة ١٢:١٣ صباحاً

تنويه مهم:

هذا المقال لا يصدر عن موقف شخصي، ولا ينطوي على أي تحيّز طبقي أو تمييز اجتماعي، بل يقدّم رصدًا لظاهرة ثقافية محلية واقعية، نشأت في سياق اجتماعي محدد، ولها ما يشابهها في مجتمعات أخرى. الهدف من المقال هو فهم هذه الظاهرة وتحولاتها، دون تبريرها أو الترويج لها.

 

من الأزمنة الغابرة وحتى وقت قريب، كان للدواشن هيئة مميزة، ونمط حياة يفرضه عليهم تصنيف اجتماعي قاسٍ، شكّلته منظومة قبلية لا تخلو من نزعة عنصرية مرفوضة.

كانت المجتمعات تنظر إليهم باستعلاء، لكنها في الوقت ذاته تخشى ألسنتهم وتتحاشى هجاءهم، فكان الناس "يرشونهم" بالكلمات أو النقود، اتقاءً لشرّ هجائهم، أو طمعًا في مديحهم.

 

لكن الدواشن لم يكونوا سذّجًا كما قد يُخَيّل للبعض. لقد أدركوا مبكرًا موضعهم "الرمادي" في البنية الاجتماعية، فاستثمروه بذكاء. تنقّلوا بين الخصوم بمرونة فريدة، متحررين من القيود الأخلاقية التي تكبّل غيرهم. فهم – بحكم وضعهم الطبقي – لم يكونوا مطالبين بالثبات على مبدأ، ولا ملاحقين بتبعات مواقفهم.

بل إن العرف القبلي كان يجرّم التعرّض لهم بالأذى، ويعدّ معاقبتهم منقصة على صاحبها.

 

هذه "الحرية الأخلاقية السلبية" وفّرت لهم مساحة للمناورة، فأجادوا اللعب على الحبال، يمدحون هذا ويذمون ذاك، ثم يبدّلون الأدوار دون حرج.

ولسانهم، الذي كان سلاحهم الأوحد، بات أداة فعالة لجلب المكاسب الشخصية.

 

ومع تبدل العصر، وتآكل البنية القبلية التقليدية، لم تختفِ الظاهرة… بل تحوّلت.

 

لقد تسلّل الدواشن الجدد إلى واجهات المجتمع بلبوس أكثر أناقة: شعراء مفوّهون، صحفيون لامعون، مؤثرون جماهيريون، أو حتى مسؤولون نافذون.

تغيّرت الأزياء وتبدّلت المنابر، لكن "السلاح" ظل ذاته: ألسنة بلا ضوابط، ومواقف بلا مبدأ، وتحوّلات دائمة بحسب اتجاه الريح.

 

إنهم اليوم يصنعون الرأي العام، أو يشوّهونه. يبيعون المواقف لمن يدفع، وينتقلون بين الولاءات كما تنتقل النار في الهشيم.

تراهم اليوم يمدحون شخصًا حتى تظنه من ملائكة الأرض، ثم لا يلبثون أن ينقلبوا عليه كأنه شيطان رجيم، فقط لأن اليد التي كانت تمنح تبدّلت.

 

الأخطر من كل ذلك أن تأثيرهم لم يعد محصورًا في الحكايات أو القصائد أو المساجلات الاجتماعية.

لقد أصبحوا أدوات ضغط وتحشيد في أخطر ساحات وملفات الصراع: من السياسة إلى الدين، من الإعلام إلى التوجيه المجتمعي. صاروا جزءًا من ماكينة صناعة الزيف، يلوّنون القبح، ويعكرون صفو الوعي، ويزيدون الواقع التباسًا فوق التباس.

 

ما يثير القلق ليس مجرد وجودهم، بل المساحة التي يُمنحونها، والنفوذ الذي صاروا يملكونه، والمنابر التي يُفتح لهم المجال فيها، في غياب مؤسسات رصينة تضبط الخطاب العام، وتحرس الوعي الجمعي من عبث المنتفعين.

 

ختامًا، فإن الدواشن الجدد هم مرآة لتحولات اجتماعية عميقة، حيث تراجعت القيم لصالح الانتهازية، وارتفعت الأصوات التي تتقن دغدغة الحشود، لا تلك التي تحترم العقول.

وفي زمن كهذا، يصبح من الضروري أن نُعيد الاعتبار للكلمة النبيلة، وأن نحذر من أولئك الذين جعلوا من "سلاطة اللسان" وسيلة للارتزاق، لا وسيلة للتنوير.

 

تذكير ختامي:

هذا المقال يتناول ظاهرة ثقافية واجتماعية برؤية تحليلية ورصدية، لا تحمل موقفًا ضد أفراد بعينهم، ولا تستبطن أي تحيّز طبقي أو عنصري.

وإنما غايته تسليط الضوء على ظواهر متجددة قد تسهم في تعقيد المشهد العام، وتشويه أولويات الوعي المجتمعي، في زمن باتت فيه الأصوات العالية تسبق الحقائق، وتطغى على الضمائر.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي