في اللحظة التي تعود فيها الشعبوية اليمينية لتعتلي صدارة المشهد الأميركي من بوابة ولاية ترامب الثانية، يخطئ من ينظر إلى ذلك بوصفه شأناً داخلياً يخصّ الولايات المتحدة وحدها. فصعود ترامب، وما رافقه من تحولات سياسية واقتصادية تعبّر عن مزاج يميني متطرّف جامح، لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق العالمي الأوسع، حيث يشهد العالم منذ سنوات موجة متسارعة من التمدد الشعبوي اليميني، اجتاحت الشرق والغرب، وأعادت صياغة الكثير من المعادلات السياسية والاجتماعية والثقافية على نحو غير مسبوق.
هذه الموجة ليست شذوذاً عن القاعدة، بل تمثّل استجابة متكررة لمنعطفات الأزمات الكبرى التي تمرّ بها البشرية. وهي – كغيرها من الموجات التاريخية – لا تدوم، بل تأخذ مداها الزمني ثم تنحسر لتحل محلّها نزعة معاكسة، تفرضها الضرورات الإنسانية والتوازنات الحضارية.
جذور التاريخ: حين تنقلب الشعوب على نفسها
من يتأمل حركة التاريخ يدرك أن المزاج اليميني الشعبوي ليس وليد القرن الحادي والعشرين. فقد شهدت أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين صعود الفاشية والنازية كرد فعل على الإهانات الاقتصادية والسياسية التي تلت الحرب العالمية الأولى. قاد موسوليني في إيطاليا وهتلر في ألمانيا موجات عارمة من الغضب الشعبي، استثمروا فيها شعارات الهوية القومية والتفوق العرقي، لينتهوا إلى كوارث عالمية مدمّرة.
وفي الولايات المتحدة، ظهرت المكارثية في خمسينيات القرن الماضي، مستثمرة مخاوف الناس من الشيوعية والاختراق الخارجي، فحوّلت المجتمع إلى ساحة مطاردة فكرية محمومة، قبل أن تنكسر حدّتها لاحقًا.
اليوم، يبدو أن العالم يعيد إنتاج ذاته، مستعيرًا الأساليب ذاتها، لكن بوسائل جديدة أكثر فاعلية وتأثيرًا.
الوقائع المعاصرة: عندما يصبح التطرف خيارًا جماهيريًا
في العقد الأخير، تسارعت مؤشرات هذا التحول الشعبوي حول العالم. لم يعد الأمر يقتصر على حالات فردية بل صار توجّهًا عامًا:
• في الولايات المتحدة، عاد دونالد ترامب إلى الواجهة بقوة، مستندًا إلى قاعدة جماهيرية ضخمة، تتبنّى خطابًا معاديًا للمهاجرين، داعمًا للقومية البيضاء، ورافضًا للمؤسسات التقليدية، بل ومشككًا في شرعية الدولة ذاتها. الهجوم على الكونغرس في 6 يناير 2021 لم يكن سوى ذروة هذا الانفجار المزاجي.
• في فرنسا، حققت مارين لوبان نتائج غير مسبوقة في الانتخابات، مروجة لخطاب قومي منغلق، معادٍ للاتحاد الأوروبي وللأجانب، وسط أزمة ثقة متفاقمة في النخب التقليدية.
• في أوروبا الشرقية، تكتسح القوى اليمينية الشعبوية صناديق الاقتراع كما في المجر مع فيكتور أوربان، وبولندا قبل تغيير حكومتها مؤخرًا، وهولندا حيث فاز حزب غيرت فيلدرز اليميني المتطرف في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
• في البرازيل، وصل جاير بولسونارو إلى السلطة بخطاب محافظ قومي متشدد، حافل بالعداء للمؤسسات البيئية، وبتقويض سلطة القضاء والإعلام.
• في الهند، يعيد ناريندرا مودي تشكيل الدولة الهندية على أسس هندوسية متطرفة، مستبعدًا المسلمين والأقليات الأخرى من معادلة الهوية الوطنية.
• في إسرائيل، تهيمن الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخها، بقيادة تحالف ديني قومي شعبوي، يشرعن الاحتلال ويعمّق نظام الفصل العنصري، ويشن حرب إبادة جماعية في غزة لم يسبق لها مثيل في التاريخ وسط صمت عالمي ودعم جماهيري محلي غير مسبوق.
هذه الوقائع لا يمكن فهمها إلا ضمن منطق واحد: البشرية أمام دورة جديدة من التوترات المزاجية، حيث يصبح التطرف رد فعل طبيعي على الشعور بالخوف، والتهديد، والضياع الوجودي.
لماذا يحدث هذا الآن؟
يمكن رصد عدد من العوامل العميقة التي تغذّي هذا الميل المتطرف:
• الأزمات الاقتصادية التي خلّفتها الرأسمالية المتوحشة، وأدت إلى اتساع فجوة الدخل وتآكل الطبقة الوسطى.
• تراجع الثقة بالمؤسسات الديمقراطية التي فشلت في حماية الناس من الأزمات أو تمثيل مصالحهم الحقيقية.
• الهجرة وتغير الهوية الثقافية، وما يرافقها من قلق وجودي لدى المجتمعات البيضاء في الغرب.
• الحرب الثقافية بين التيارات الليبرالية والمحافظة، والتي باتت تنعكس في كل مناهج التعليم ومحتويات الإعلام.
• الثورة الرقمية، التي سمحت بنشر نظريات المؤامرة والشعبوية بسرعة مذهلة، وخلقت فقاعات إعلامية تؤكد معتقدات الناس بدلاً من تحديها.
إلى أين نمضي؟
وفقًا لمسارات التاريخ المتكررة، فإن العالم متجّه نحو أحد احتمالين:
الأول: صدام واسع متعدد الجبهات، قد يكون اقتصاديًا أو عسكريًا أو ثقافيًا، ينتهي بانفجار كبير يعيد تشكيل التوازنات الدولية، ويفرض لحظة "عقلانية إجبارية" كتلك التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
الثاني: تفاهمات كبرى، تفرضها الضرورات والتكتلات، تهدف إلى امتصاص الصراع واحتوائه عبر صيغ سلمية هشة، لا تنهي الخطر، بل تؤجله حتى تندلع الموجة التالية.
لكن حتى نصل إلى أحد هذين الخيارين، ستظل الحروب بالوكالة تتوسّع، وستستمر سباقات التسلح الرقمي والتقني، وستتضاعف عمليات الاستقطاب داخل المجتمعات، وسيمضي العالم في طريقه إلى أقصى حافة الجنون قبل أن يبدأ رحلة العودة إلى التوازن.
حين تتكرر المأساة كأنها قدر
المزاج العالمي اليوم، وإن بدا منفلتًا من عقال العقلانية، إلا أنه في جوهره تكرار لمأساة قديمة، عاشتها البشرية في دورات متعددة. وما بين صعود وسقوط، حلم وكابوس، تطرف وتعقّل، تظل النفس البشرية قادرة على أن تعيد إنتاج آلامها، وأن تكتشف مجددًا أن التطرف لا يقود إلا إلى الهاوية، وأن الاعتدال، وإن بدا ضعيفًا، هو وحده القادر على الاستمرار.
-->