ما سر الاهتمام الإسرائيلي بيهود اليمن؟!

توفيق السامعي
السبت ، ٠٥ مارس ٢٠٢٢ الساعة ٠٤:٤٥ مساءً

لم تحظ جنسية يهودية باهتمام بالغ لحكام إسرائيل كاهتمامهم باليهود اليمنيين قديماً وحديثاً.

 تخفي الدولة العبرية، أو طلائعها وداعموها من قبل وراء ذلك الاهتمام، أهدافاً كبيرة سنسلط  الضوء هنا على تلك الأهداف وعلى ذلك الاهتمام والأبعاد التاريخية لذلك.

حيث يعتبر اليهود اليمنيون أقدم الجنسيات اليهودية على الإطلاق حالياً، وما زالوا محافظين على كل خصائص الأصالة الدينية والهوية اليهودية ومحافظين على تراثهم الفكري والثقافي، وكذلك جنسهم ونوعهم. فهم بهذه الصفات والمميزات يمنحون هذا الكيان الطارئ في المنطقة صفة الأصالة والأحقية التاريخية والميزة السامية التي استطاعت إسرائيل توظيفها في كافة المحافل الدولية واستصدار تشريعاتٍ خاصة بها تميزهم عن بقية السلالات في العالم، وتحاكم مناوئيها ومنتقديها على أساسها، وتجعلها سيفاً مصلتاً في رقاب كل من ينتقد الجرائم الإسرائيلية، فيما بات يعرف بقانون "معاداة السامية".

لقد شكلت تطلعات اليهود إلى إقامة دولتهم الثيوقراطية على أساس ديني منذ البداية فكان عليها أن تمضي في خطوات عديدة منها: دراسة تاريخ المنطقة، ولغتها، وأصالتها، وفكرها، عبر الرحلات الاستكشافية التاريخية لطلائع مبشرين وباحثين لهذه الغاية، ووظفت نتائج تلك الدراسات أيما توظيف لصالحها. أدركت إسرائيل، ومن قبلها الحركات اليهودية التي تطلعت إلى إقامة الدولة اليهودية، أنها لا يمكن أن تثبت جذورها وترسخها في المنطقة حال إقامة دولتها إلا على أساس ديني وعرقي، فمضت في تلك الدراسات والأبحاث واستطاعت التأثير بها عالمياً، وفرضتها كنتائج علمية في أبحاث ومناهج الدول العالمية. جعلت الدراسات الأوروبية الاستكشافية منذ قرون التوراة خارطة هداية وانطلاقاً للرحلات إلى العالم القديم، وخاصة العربي، واليمني على وجه أخص. وحرصت الكثير من الجامعات الأوروبية على الخلفية التوراتية لأبحاثها، فيما عرف بعصر الاستكشافات بعد الثورة الإصلاحية التي قام بها مارتن لوثر، والذي صبغ تلك الثورة وعملية الإصلاح فيها بالصبغة التوراتية ذات المنشأ اليهودي ليفصل العالم المسيحي إلى قسمين؛ قسم بروتستانتي على أساس توراتي إصلاحي ثوري، وقسم كاثيولوكي محافظ وتقليدي جامد، يكون الأول صديقاً لليهود متبنياً أفكارهم وخطواتهم، والثاني معادٍ لليهود لا يؤمن بأي فكر لهم.

هاجر أصحاب التيار الأول إلى أمريكا الجديدة التي أسموها "أرض الميعاد الأولى"، وهنا بدأت كل خطوات التأسيس للعودة إلى الجذور وتخطيط الدفع باليهود إلى الهجرات إلى فلسطين، وتكوين صناديق الدعم المختلفة لهذه الرحلات والاستقطابات.

في موازاة ذلك كانت ما تسمى الرحلات الاستكشافية الأوروبية بعد عصر التنوير الأوروبي معظمها يتجه نحو البلاد العربية والإسلامية وإلى القلب منها جنوب الجزيرة العربية. حيث كانت البداية في نهاية القرن السابع عشر من قبل اليهودي المستشرق يوهان داود ميساليش، البروفيسور في جامعة جوتن الألمانية، والذي استطاع أن يقنع الملك الدنماركي فريدريك عبر وزير خارجيته برنستورف أن يتبنى رحلة الاستكشاف الأولى إلى "جنة الله في الأرض"، و"أرض الأحلام"، "العربية السعيدة" لاستكشاف العديد من خصائصها؛ لغة وجنساً وتاريخاً وبيئة.

تمت الاستجابة لتطلعات ميساليش، ليمول الملك الدنماركي فريقاً مكوناً من خمسة دكاترة وبروفيسورات وهم: البروفيسور فريدريك كريستيان هافن - متخصصاً في اللغات السامية، والبروفيسور بيتر فورسكال - علم نبات، والمهندس الملازم كارستن نيبور - عالم رياضيات وفلك وماسح أراضي، والدكتور كريستيان كرامر - طبيب وفيزيائي، والهر جورج ولهم بورنفاريد - فنان ونحات..لتنطلق الرحلة من كوبنهاجن إلى اليمن في 20 يناير 1761م، والتي سميت هذه الرحلة ب"السعيدة". كانت هذه الرحلة قد تركت صدىً كبيراً على مستوى أوروبا كلها كونها أول رحلة إلى "أرض الأحلام" التي حلم بها الملك الإسكندر المقدوني ملك اليونان، ولم يستطع دخولها. كانت نتائج هذه الرحلة مهمة جداً لأوروبا كلها وللعلم بشكل عام، عول عليها كل الأوروبيين تعويلات كبيرة، رغم أنها كانت مخاطرة، وكذلك في تنافس محموم بين ملوك أوروبا على إرسال البعثات الاستكشافية شرقاً وغرباً وجنوباً.

لم تخف هذه الحملات ما وراءها  من الأهداف الاستعمارية والدينية التبشيرية، ولكن تلك الأهداف كانت محاطة بكامل السرية.  لم يخف العلماء أو السياسيون الذين كانوا يرسلون الرحالة أجندتهم اليهودية أو خلفياتهم الفكرية ذات المنشأ التوراتي أو التأصيل اللاهوتي اليهودي؛ فالرحالة المسيحيون أو اليهود صراحة أو المسيحيون المتصهينون الذين جاؤوا لاكتشاف اليمن كانت التوراة دليلهم، والبروفيسور الألماني سابق الذكر، والذي يعتبر عراب تلك الرحلات، أراد تفسير نصوص التوراة من اليمن لأنها الأصيلة الوحيدة في المنطقة، وإسقاط الأحداث عليها، وهذا يفسر سر اهتمام زعماء إسرائيل بمخطوطة التوراة التي هُرِّبت مع اليهود اليمنيين إلى إسرائيل عام 2018 والاحتفاء بها، وهذا الدافع سبق حديث كمال صليبي وفاضل الربيعي بقرون عن جغرافية التوراة في اليمن، وتفسير الأسماء الموجودة وإسقاطها على بعض المناطق اليمنية، ربما ليكشف توجهاتٍ غامضةً لفاضل الربيعي، كما يتهمه البعض بأنه مدعوم من قبل إسرائيل لهذه الغاية. استمرت الرحلات الاوروبية الى بلاد اليمن للبحث عن هذه المخطوطات، وكان كثير منهم يعتمد على اليهود المحليين كأدلة الى المواقع الأثرية. كان ابرز من خدم هؤلاء الباحثين أو المستكشفين هو حاميم حبشوش، الذي منح بعضهم آلاف النقوش والمخطوطات كأمثال هاليفي وجلازر وغيرهما. ظهرت النقوش المدونة في الصخور والجبال، لكن لم يتم إظهار أيٍ من المخطوطات المرقومة في الجلود والرقوق المختلفة. 

كان هناك نظام للتواصل بين بعض هؤلاء اليهود وبين الرحالة أشبه بالتعامل الورقي المصرفي الحديث.  كانت علة هؤلاء الباحثين بالتواصل مع اليهود أنه لا يتم التركيز عليهم من قبل القبائل ومرونتهم وتلونهم في التعامل، وتعالي القبائل عن الإساءة لليهود أصحاب الجزية.  الحقيقة الغائبة في هذا الأمر كان هو الرابط المقدس بين اليهود، وهو الايديولوجيا والهدف البعيد، فضلاً عن اهم الاهداف والوسائل، وهي أن اليهود باحتفاظهم بلغتهم العبرية وخطهم العبري يستطيعون فك وقراءة هذه النقوش لمساعدة هؤلاء الباحثين كون العبرية إحدى فروع المسند القديم والآرامية القديمة..  بين اليمنية والمسند والعبرية خيط رفيع، فقارئ المسند يستطيع قراءة وفهم العبرية والعكس، فضلاً عن المشتركات اللفظية الكثيرة بين اللغتين.  في حقيقة الأمر لو أنزلت إسرائيل اليهود اليمنيين منزلتهم الحقيقية من حيث الأصالة والعرق والثقافة لضربت أطناب دولتها في عمق المنطقة، ولتجذرت كثيراً فيها؛ فاليهود اليمنيون هم الذين يعطون إسرائيل حق الأصالة في الدولة، والأحقية المكانية، والعمق التاريخي والثقافي، غير أن بعض المعلومات تقول إن إسرائيل تتعامل بتمييز عنصري بين عرقياتها المختلفة، وتتعامل بدونية مع يهود اليمن والفلاشا الأثيوبيين، وهما أقدم وأعمق الأعراق اليهودية في (إسرائيل).

هذه الأصالة تتمثل في تعميق صبغة السامية التي تتخذها إسرائيل سيفاً مصلتاً على رقاب الشعوب وكل منتقديها، واستطاعت استصدار تشريع دولي أممي يسمى "قانون معاداة السامية" في كل العالم، تشهره متى احتاجت إليه في وجوه الدول والجماعات والأحزاب التي تعادي أو تنتقد سلوك إسرائيل أو اليهود في العالم وفي فلسطين المحتلة. فالسامية مصطلح أسسه اليهود منذ القدم حينما دونوا التوراة، حيث قسمت تلك التوراة الجنس البشري قديماً إلى ثلاثة أجناس وسلالات؛ الجنس السامي: ويمثله اليهود والعرب والأوروبيون، نسبة إلى سام بن نوح كأحد أولاده الثلاثة الذين نجوا من الطوفان، فجاء من نسله الشعوب المذكورة. والجنس الحامي: نسبة إلى حام بن نوح، وهو الإبن الثاني له من الذين نجوا معه في السفينة، ونسبوا إليه الأفريقيين والشعوب السمراء، والجنس الثالث اليافثي، نسبة إلى الإبن الثالث لنوح وهو يافث، ويمثلهم الترك والصينيون والآسيويون أصحاب الأنوف الفطس. جاء حديثاً النمساوي شلتوز ذو الاصول اليهودية عام 1780، وجدد هذه النظرية؛ فجدد المصطلح وسيسه كثيراً وعَمَّقه، فصار مصطلحاً علمياً يستشهد به عند الحديث عن الشعوبية الجديدة، ووسم به اليهود في كل مكان، وبدأ ادعاء الأفضلية البشرية والمفاضلة بين الشعوب على أساس من هذا التمييز العرقي، والذي تبنته إسرائيل بقوة في كل تعاملاتها الحديثة، واستصدرت على أساسه قانون "معاداة السامية".

هذه النظرية لا تختلف كثيراً عن نظرية الشيعة (نظرية البطنين) أو (آل بيت النبي)، والتي يمثلها العرق الهاشمي، وعلى أساس هذه النظرية دمروا كثيراً من الشعوب العربية والإسلامية، ونخرت الشيعة بهذه النظرية الدين الإسلامي من داخله ومزقته أيما تمزيق، وصار الدم الإسلامي ينزف اليوم على أساسها. فاليهود اليمنيون، وكذلك الفلاشا الأثيوبيون، يمتلكون أقدم المخطوطات التوراتية حتى قبل تطوير اللغة العبرية وعهدهم الجديد، وهذا لا يمتلكه أي من يهود العالم اليوم كونهم طارئين من معتنقي اليهودية المتأخرة بعد القرن العاشر الميلادي. فمن خلال التعمق البحثي على مكونات يهود إسرائيل اليوم نجد أن 90% من يهودها ليسوا يهوداً حقيقيين – أي من العرق السامي المنتسب إلى سلالة النبي يعقوب- وليسوا من الساميين الأصليين، وإنما من دول الاتحاد السوفييتي والاشكناز والخزر ومن معتنقي الديانة اليهودية من أصول شتى. ويمكن لنسبة ال 10% المتبقية أن تكون ذات منشأ عرقي سلالي. حتى اليهود اليمنيون والأثيوبيون لا ينتمون إلى السلالة المنتسبة للنبي يعقوب بقدر ما ينتمون إلى الأصالة والعمق التاريخي البعيد على أساس من الديانة التي دخلت اليمن في اوقات مختلفة؛ تارة مع بلقي بعد اسلامها وقومها بسليمان عليه السلام، أو بعد اعتناق أسعد الكامل الحميري وبعض قومه اليهودية في القرن الرابع الميلادي ومن جاء لعده من الملوك. هذه الرحلات وربط العلاقات المتينة المتقدمة مع يهود اليمن أو جنوب الجزيرة العربية بشكل عام ربما تكون إسرائيل متطلعة لبقية المنطقة عن طريقهم، وعلى هذا الأساس تدعي إسرائيل بين فترة وأخرى بأحقيتها التاريخية على يثرب وما جاورها، وتدعي بحقوق اليهود اليمنيين في اليمن.

ففي اليمن، وفي بعض الكتابات التي يكتبها نزر يسير من الباحثين الأجانب أو العرب، يحاولون ربط الملكة بلقيس والكتابات اليمنية القديمة ومحتواها وتفسيراتها على أساس توراتي بقصص خرافية توراتية بعيداً عن علم اللغات وتفسيراتها وحروفها، كما يفعل كمال صليبي وفاضل الربيعي وآخرون الذين الفوا قصة لابنها في معبد اوام، وحاولوا تفسير بعض النقوش فيه بعيداً عن المعنى الحقيقي واللغوي له.

كثير من الرحالة الأجانب الذين زاروا اليمن بغرض الاستكشاف نجدهم يركزون على الجنس اليهودي، ويبرزون أماكنهم وعلاقاتهم وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم وتعاملهم المالي، أدى هذا الأمر إلى التبشير في صفوفهم للعودة إلى أرض الميعاد وربطهم بإقامة الدولة الإسرائيلية مبكراً، وإقامة العلاقات العامة معهم تمهيداً لتلك الرحلات إلى أرض فلسطين، حتى أن آباءنا وأجدادنا المعمرين يروون لنا عقيدة يهود اليمن وتعلقهم بإقامة دولة إسرائيل، وكانوا يحدثونهم  عن داعي الهجرة بشكل مبكر قبل أن تقوم الدولة من الأساس. لم يأت اليوم الموعود بالهجرة قبل وبعد عام 1948 حتى رحل اليهود عن بكرة أبيهم بشكل متسارع وتلبية النداء التوراتي الذي يزعمون فيما عرف بعد ذلك ببساط الريح، الا قليلا منهم بقوا حتى عهد قريب ليلحقوا بمن سبقهم، ليعود حنين الكثير منهم اليوم - بشكل كبير- إلى اليمن وموطنهم الأول، رغم استمرار استقدام بقية اليهود اليمنيين إلى (إسرائيل).

*رئيس المركز اليمني للدراسات التاريخية والاستراتيجية (يمان)

الحجر الصحفي في زمن الحوثي