طماح .. الموت وقوفاً

محمد عبدالله الصلاحي
الاربعاء ، ٠٦ مارس ٢٠١٩ الساعة ٠٤:١٥ مساءً


يخطف الموت كل حيّ، ينتزع كل نَّفْسٍ، يكتب نهاية كل حياة، لكنه لا يتنزع تاريخاً خُلِّد، ولا يفني خلود الذكريات، سجل البطولات، لحظات يأتي ذكرها على كل لسان، لكل الأجيال، في كل المراحل، وهكذا كان موت الشهيد اللواء الركن محمد صالح طماح، انتزعته الموت من بيننا، وأبقى خلفه كل مآثره، كل ذكرى حسنة، كل بطولة سُجِّلت، كل قصة كُتبت.

طماح، كان سهل التعايش، لبق الحديث، مملوء بالأفكار، ومشحون بطاقات إيجابية تكفي له ولمن حوله، لم أألفه في كل لقاءاتي معه غير باسماً، شامخاً، يحمل الأمل في وجهه، ويُخفي الألم في صدره، ذلك الألم الذي أنتجته معاناة شعبنا من حربٍ أثخنته كثيراً، وآلمته بشدة.

لطالما رأيته في الساحات في بداية انطلاقة الحراك، كان صوته مدوياً في كل ساحة وهو ينتصر بكلماته للقضية الجنوبية، لم أكن حينها على معرفة شخصية به، لكن نضاله كان معروفاً للكل، ثم في السنوات اللاحقة بعد انطلاقة الحراك جمعتنا به بعض اللقاءات التي كانت تُعقد في أكثر من منطقة في يافع ضمن أنشطة الحراك الثورية، وفي كل لقاء أو مسيرة أو فعالية كان يترسخ اسمه وصوته، ومنطقه الشجاع، ومواقفه البطولية، في ذاكرتنا، وفي الذاكرة الثورية للحراك.

جسّد في حياته تاريخاً طويلاً من النضال وخدمة الوطن، عاصر أشد المراحل، وأكثرها صعوبة، في كل المراحل جدّ واجتهد، ضحى وأعطى، كان له نصيباً وافراً من الجهد، والبذل، والتعب في سبيل وطنه، وثورته، وقضيته.

لم يكن مروره في كل المحطات عادياً، بل كان يضع بصمته حيثما وُجد، كل المراحل التي عاشها، عاشت معه، وحمل معها ذكرياتها، جسّد تاريخاً من البطولة، والكرامة، والنضال، أعطى كل مرحلة حقها، خاض غمار الثورة ثائراً ضمن التنظيم السياسي لمقاومة الاستعمار البريطاني، ودخل دهاليز الدولة كقائد عسكري، وصال في ميادين الحرب محارباً في (1994م)، ثم شاءت الأقدار أن يعود مجدداً لغوض غمار النضال في سنوات الثورة وانطلاقة الحراك، وحين حانت عودته مُجدداً لخدمة الوطن والشعب في ظل معترك الحرب الدائرة ضد انقلاب المليشيا الحوثية، أدّى ما يقع عليه على أكمل وجه، ثم أسلم روحه شهيداً.

أجريت معه ذات يوم لقاءً مطولاً نشرته إحدى الصحف، كان لقاءً رسم فيه معالم فترة حرجة ومفصلية من نضال شعبنا في الجنوب، تلك المرحلة التي شهدت اختلاط الرؤية عند الكثير، برزت ملامحها للسطح، فالسلطة في صنعاء لم تعد كسابقتها، بل أصبح يرأسها جنوبي، والسلطة المحلية في الجنوب كذلك يتبوأ مناصبها جنوبيين، كان المشهد يبدو مربكاً للكثير، وحوله احتاروا، فالنظام الذي ناضل الشعب ضده لم يَعُد موجود، ذهب بكل سوءاته، وأتى نظاماً يرأسه جنوبي، حينها كانت إجابته عن الأسئلة المطروحة أشبه بخارطة طريق تؤدي إلى مخرج لا ضرر فيه ولا ضرار.

دائماً كان يدعو للتعايش، للتقارب، للتفاهم، للتعاضد بين كل رفقاء الثورة، زملاء النضال، حمل رؤية وسطية إزاء كل معطيات الواقع التي كان يغلب عليها حساسية المرحلة، أدرك أن الْعُسْر وفَرط الموقف المتشدد هزيمة، وأن اليُسر والتخلي إنكسار، وأيقن مبكراً أن لا مناص من الدخول في معترك سياسي مرحلي من أجل بناء المؤسسات الجنوبية في إطار كل محافطة ومديرية، معترك تقوده في الواجِهة الدولة، طالما تبوأ قمة هرمها من لا يُعَادِي القضية الجنوبية بل يُقر بوجودها ومظلوميتها، ثم حدث الانقلاب على الدولة مِن قِبَل المليشيا الحوثية، واتّسع محيط هذا المعترك ليغدو أكبر في الجغرافيا، وأكثر في وجود فرقاء السياسة وحلفاء المرحلة، معترك يتطلب تجنيباً مؤقتاً للأوراق الحالية، والأهداف الدائمة للفرقاء، حتى يتمكن الكل من التقارب بعيداً عن منطق القوة، والتمنطق بالسلاح. السلاح الذي لا يُرفع إلا بوجه العدو، والعدو ليس ما يجمعنا به قاسم مشترك مرحلي، بل عدو الكل واحد ‫«‬المليشيا الحوثية‫»‬ وحين تمضي هذه المليشيا إلى زوال، سيذهب الكل إلى حلول يرتضيها الشعب شمالاً، وتتفق مع أهداف الشعب جنوباً، هكذا كانت رؤية الشهيد.

رحل طماح، وكان الوداع حزين، انطفت معه كل المشاعر، وامتزجت فيه كل العبرات، لم نضع في الحسبان أن يُغادرنا من نشدد بهم أزر الوطن، من نضع فيهم كل الأمل، من استودعنا معهم أمانة الشعب، اللحظات الحزينة تأتي على حين غفلة، لكنها تترك ندبتها طويلاً، وتضع في طريقنا الكثير من الألم.

رأينا تلك الصور التي نُشرت لحظة الحادثة، وبقدر الألم الذي حملته، إلا أنها حملت أيضاً كل معاني السمو والكبرياء والبطولة، ترجّل من المنصة ماشياً على قدميه، غير مكترث بعمق الجرح الذي أصابه، كان الكبرياء يتراءى في ملامح وجهه، وحين أثقله الجرح، وأدماه كثيراً، لم يسقط، ولم يسمح لشرفه العسكري أن يُداس بالتراب، وفي مشهد يبحث فيه الكل عن فرصة البقاء حياً، كان هو مشغول بأن يُمسك شرفه من الوقوع تحت تلك الأقدام التي ازدحم بها المكان.

يا لهذه الحرب التي أخذت منا خيرة الرجال، وأشجعهم، وتركت لنا مراسيم العزاء خلفهم، تلاحقنا فيها الفواجع واحدة تلو أخرى، فلم نكد نُلملم شعث أحزاننا من هول إحداها حتى نُفجع بأخرى!

رحم الله الشهيد، اللواء الركن محمد صالح طماح، وأسكنه فسيح جناته. وإنا لله وإنا إليه راجعون.


* نُشر في كتاب (طماح، الفارس المقدم) الذي صدر متزامناً مع فعالية تأبين الشهيد بتاريخ (23 / فبراير / 2019م).

الحجر الصحفي في زمن الحوثي