«المقاطرة».. صمود قلعة وثورة فقيه!!

بلال الطيب
الاربعاء ، ١٤ اكتوبر ٢٠١٥ الساعة ١٠:٤٤ صباحاً
كانوا «ألف» أسير، اقتيدوا صوب «المَركز المُدنس»، وبين أيديهم «ألف» رأس دامي أجبروا على فصلها عن أجسادها، ولكي يغيض الإمام يحيى شرف الدين أعداءه «الطاهريين» أمر بإلحاقهم بزملائهم، بعد أن القى عليهم نظرة التشفي الأخيرة، ولأن تاريخ الإجرام الإمامي موصلاً لا ينقطع، قام الإمام يحيى حميد الدين بـتكرار ذات المشهد، بعد ثلاثة قرون من حدوثه، والضحايا هنا أبطال «المقاطرة» الأشاوس، الذين هزوا «عَـرشه» ذات ثورة.
 
خرج الأتراك من اليمن وهم يشيدون ببطولة الإمام يحيى، وبسالة مقاتليه، وقال عزت باشا أحد قادتهم: «لو كان للدولة ألف رجل من هؤلاء لأخذنا أوربا باسرها»، الأمر الذي أثار الرهبة في قلوب سكان اليمن الأسفل ومشايخهم، وحين فشل مؤتمر «العماقي» بـ «الجند» بسبب تنازع المشايخ المجتمعين على الرئاسة، هرول أحدهم ويدعى نور الدين حسان صوب صنعاء، مبايعاً الإمام يحيى وطالباً منه مدَّ سيطرته على المناطق الشافعية، في الوقت الذي كان فيه هذا الأخير قد استعد لذلك، وهيأ عساكره للانقضاض على «الأرض» الخصبة، و«الإنسان» المُسالم.
 
مع حلول العام «1919» كَثف بعض مشايخ اليمن الأسفل من استعداداتهم للمواجهة، وخططوا لاغتيال الإمام يحيى نفسه، إلا أن محاولتهم باءت بالفشل، بفعل الجواسيس الذين رافقوا تحركاتهم خطوة خطوة، وفي «حبيش» تولى الشيخ محمد عايض العقاب مقاومة الزحف الإمامي في لحظاته الأولى، بمساندة بعض المشايخ، وقد تمكن من محاصرة أخو الإمام يحيى وبعض القوات لمدة ثلاثة أشهر في مركز «الناحية»، وبعد ثلاثة أشهر أخرى انتهت ثورة «العقاب»، وامتد توغل القوات الغازية إلى باقي مناطق اليمن الأسفل، باستثناء «المقاطرة» وقلعتها الحصينة.
 
لكل حرب مبرراتها، وما دام أبناء «المقاطرة» كما يقول المؤرخ «المتوكلي» عبد الكريم مطهر متهاونين في أمور الدين، ولم يبق لديهم منه ومن تعاليمه ما يعدون به من أهل الإسلام؛ أهملوا الصلاة وعقود الأنكحة، واصبحوا «إخوان نصارى» نتيجة قربهم من «عدن» وذهابهم إليها، ومعاشرتهم للأجانب، وهي أسباب حد وصفه جعلت أمير الجيش الإمامي علي الوزير يرسل إلى الإمام يحيى طالباً المدد والإذن بإصلاح تلك الجهة، وإدخالهم إلى حظيرة الطاعة، وتجديد ما أندرس من رسوم الدين وتعاليمه.
 
حَشد الأئمة لغزو «المقاطرة» آلاف العساكر، غالبيتهم من «أرحب ووداعة»، وبعض رعايا مشايخ اليمن الأسفل «المُتجملين» و«المخدوعين»، وخلاصة «الجولة الأولى»، والتي استمرت لعام كامل، اتركها هنا لـ «المؤرخ» مطهر، حيث قال: بعد معارك ضارية بين «المجاهدين» وهذه القلة من «البغاة أهل الفساد»؛ يرزق الله «أنصار الحق» الظفر بالأعداء، ويغنمون منهم ما لا يحصى، ويحتزون رؤوس كثير من قتلاهم، ليحملها الأسارى إلى الإمام، وقد بلغوا مائتين وخمسين نفراً، والقتلى مائتين، وقد اقتيدوا إلى صنعاء مشياً على الأقدام، في رحلة استمرت ثلاثين يوم.
 
كما لا ينسى مطهر أن يصف تكبيرات العساكر حال رؤيتهم لجثث الضحايا، وقد شبعت من لحومهم النسور والعقبان، وينقل بعد ذلك قصيدة لأحد الشعراء المادحين للإمام يحيى مطلعها:
 
ما لـ «لمقاطرة» الفيحاء هاج بها 
موج الضلال فأبدت منك عصيانا
حتى دعتك بجيش ما قصدت به
إلا تشيد للإسلام أركانا
نثرت في القبض هام المارقين لها
دراً ومن علق الأوداج مرجانا
سقطت «المقاطرة» ولم تسقط «قلعتها» المَنيعة، وابتدأت «جولة ثانية» من المقاومة، صمد فيها من تبقى من الرجال لعام آخر، بقيادة البطل «شاهر قائد ردمان»، وكبدوا الغزاة وأذنابهم مئات الضحايا، ويصف المؤرخ مطهر في كتابه «كتيبة الحكمة» جانباً من ذلك: تقدم الجيش من جميع الجهات، على القلعة وحصن «الثميدني»، وكان من فيها من «البغاة» قد أجمعوا على عدم تسليمها، أو الموت دونها، ومن الغريب أن نساءهم كن أكثر جراءة منهم، وكان الجنود يسمعون منهن التوبيخ والتقريع، ما يحملهم على معاودة الجد في الحرب، ودوام الاصرار والامتناع.
 
ومما تحفظه ذاكرة العوام أن نساء «المقاطرة» كن يرددن حينها:
«يا الليمتين كنت حصن عالي
واليوم طريق للخيل والبغالي»
سقطت «القلعة» وما كان لها أن تسقط؛ لولا خيانة الشيخ نور الدين حسان، الذي أعطى المواثيق لـ «المقاومين» بعدم التعرض لهم، وحين استسلموا بناءً على تعهده حدث العكس؛ ولم يكتفي العساكر بالقتل والتنكيل والسلب، بل عمدوا على نسف جميع منازل المواطنين، وهم يرددون: «يا حجرة اليهودي.. روحي ولا تعودي»، ولولا أن الانتفاضات توالت عليه في عديد مناطق، لاستمر الإمام يحيى في تقدمه جنوباً، ويلخص أحد مادحيه ذلك:
تقدم فقد ثلت عروش الجبابرة
ودكت رواسي بغيهم فهي صاغرة
وتاريخ حم ان إمامنا
سيملك «جبل شمسان» بعد «المقاطرة».
كغيرها من مَناطق اليمن الأسفل، دخلت «المقاطرة» نفق الأئمة المُظلم، وتَجرعت جبروتهم وعسف عساكرهم، وفي ذروة تلك «المعاناة»، وصل الثائر الفقيه «حميد الدين» إلى قريته «الخزفار»، عائداً من «غربة» أخذت معظم سنين عمره، توزعت بين «عدن وجيبوتي»، إما عاملاً كـ «أسطى» يبني للناس مساكنهم، أو طالباً لـ «العلم» يبني للعقل مداركه، وقد تدرج في «الصوفية الشاذلية» حتى وصل إلى أعلا مراتبها، ليبدأ فور وصوله بدوره الإصلاحي، وتوعية الناس بأمور دينهم ودنياهم، وابتنى لأجل ذلك «مسجداً وزاوية»، فيما منزله العامر ظل مفتوحاً لـ «الرعية» المتخاصمين، الذين ارتضوا به حكماً، كما عمل على استصلاح بعض الأراضي وتوزيعها على الرعايا المُعدمين، وحين وجد أن عُمال الإمام يأخذون على «القات» ضريبتين، تصدى لذلك بقوة، وحرض المزارعين على عدم الدَفع، وكتب إلى أمير تعز ملحاً بـ «أن ضريبة واحده تكفي».
«تحريض» ولكنه أسعد الأئمة؛ وصارت الفرصة مواتية للقضاء على هذا «الثائر» وللأبد، دمروا «المسجد والزاوية»، واقتادوا الفقيه «الخزفار» صوب مدينة تعز، وهناك وجه على الوزير «نائب الإمام» بحبسه، وفي السجن أثر في أصحابه الجدد، ليتسلل فكره ومنهجه مع خروجهم الواحد تلو الآخر، ليخرج بعد خمس سنوات، وقد تضاعف محبيه، وتكاثر مريديه، وجابت شهرته الآفاق، فعاد لممارسة دوره الإصلاحي بحذر شديد، وعيون الأئمة تترصد خطاه.
 
«الطغاة» وعلى مـَدى التاريخ يَعملون على تَحسين صورهم، بتقريب الشخصيات الاعتبارية ذات الحضور الشعبي منهم، وتكليفهم بمناصب ظاهرها خدمة «الرعية» وباطنها اضفاء «الشرعية» على نظام حكمهم، وقد حاول الأئمة كسب الفقيه «حميد الدين» إلى صفهم، وعرضوا عليه بالمراسلة إدارة أوقاف «المقاطرة»، إلا أنه اقتدى بـ «أبي حنيفة النعمان» ورفض ذلك المنصب، الأمر الذي أغضب الطغاة، فأطلقوا عليه لقب «حميد الديك»، ثم طاردوه من منطقة إلى أخرى، ليقع بالأخير بين أيديهم، بعد أن خسر أحد أفضل مريديه، وكانت نهايته تماما كـنهايـة «أبي حنيفة».
 
اسوأ لحظات عُمر الفقيه «الخزفار» آخرها، سُجلت فُصولها الكئيبة في دهاليز «القلعة» بصنعاء، السجن الذي نفاه الأئمة إليه، لاعتقادهم أن اختلاف المذهب، وبُعد المَوطن، سيجعل تأثيره محدود، ولن يتكرر ما حدث بـ «سجن تعز»، بصعوبة استطاع الفقيه أن يروض محيطه الاجتماعي الجديد، وبفطنته كسب ثقة الأغلبية، وكان من أبرز رفقته صالح المقالح والد الشاعر عبد العزيز المقالح، وسيطه عند الإمام فيما بعد، إلا أن ملك الموت كان أفتك وأسرع.
 
ودع الفقيه «حميد الدين الخزفار» الناس والحياة منتصف العام «1942»، وظلت سيرته الطيبة على ألسن محبيه، يلهجون بذكره وكراماته على الدوام، ويثنون على عطائه وتضحياته كيداً لـ «الطغاة» الحكام، الذين عملوا على تشويه سمعته، واحتقار نضاله، وختموا ذلك باتهامه بـ «الشيوعية»؛ واني لا أتخيل روحه ترفرف هناك في «الجنة» التي طالما تغنى بها في اشعاره: 
 
تزحزح يا فتى فالسعي غالي
وشمر واجتهد هيا تلفلف
تحرك وارتقي نحو المعالي 
وسابق سوف يندم من تخلف
مقامات العلى فيها المجالي
فيا سعد الذي فيها ترفرف 
جنان الوصل فلا قيل وقال
سوى العشق الغزير هيا تحفحف
خلال المئة عام التي سبقت ثورة «المقاطرة» قامت في اليمن الأسفل عديد حركات صوفية، قارعت ظلم الأئمة، وتبنت خيار مقاومتهم، بدءاً بالفقيه «سعيد المذحجي» و«مارش المحمدي» في إب، و«نعمان البناء» في الحجرية، وغيرهم كثيرون، وما ثورة الفقيه «حميد الدين الخزفار» إلا امتداداً لذلك، كما أن جَدي الفقيه الأديب «أحمد إبراهيم الطيب» كانت له في عشرينيات القرن الفائت جولة ثورية مشابهة، لم تتجاوز أعالي «جبل صبر» الأشم، وقد ارسل «الطغاة» عشرات العساكر للقبض عليه، إلا أنه أفلت من بين ايديهم بأعجوبة، وظل متخفياً بعيداً عن أهله وقريته لعديد سنوات.
 
ومن عجائب القَـدر أن يحيى شرف الدين ـ مـَدخل حكايتنا الثورية ـ أصيب بالجنون بعد أن خلعه ولده المطهر عن الإمامة، ومشايخ اليمن الأسفل بشقيهم «المُتجمل» و«المَخدوع» اقتيدوا في نفس العام الذي سقطت به «قلعة المقاطرة» صوب صنعاء، وظلوا بالسجن حتى مات أكثرهم، وعلي الوزير هو الآخر كانت نهايته عند «آل سعود» هارباً من الإمام يحيى، الذي عزله عن قيادة الجيش وإمارة تعز، ممهداً لولده السيف أحمد؛ أما الإمام يحيى حميد الدين فقد كانت نهايته قتيلاً على يد من ساهموا في تثبيت دعائم مُلكه «بيت الوزير».
 
 
حقائق لافتة لتاريخ مُشبع بـ «الثورة»، بـ «الظلم»، بـ «الخيانة»، «الطغاة» فيه يقتلون لكي يحكمون، ويستعبدون لكي يسودون، و«العبيد» يتجملون لكي يتسلقون، ويخونون لكي يتشفون، و«الاحرار» للإنسان ينتصرون، وللأوطان يُضحون، وفي الأخير يذهب «الطغاة وعبيدهم» إلى مزبلة التاريخ، و«الأحرار» وحدهم هم الخالدون.
الحجر الصحفي في زمن الحوثي