جبل صبر.. أكبر مَعاقل الكرامة

بلال الطيب
الجمعة ، ١٠ مارس ٢٠٢٣ الساعة ٠٨:٠٣ مساءً

لأبنائه ماض وحاضر مُشرف في مُقاومة الإمامة  

جَبل صبر الأشم، ليس مُجرد مُرتفعات شماء تَتعالى بهيبة وجلال نحو ازرقاق السماء، أو شِعابًا خَضراء مُكللة بالغيوم، أو أدوية مُلتوية حافلة بكل ما يحتاجه الإنسان في قوته ومعاشه، أو طبيعة خلابة تمنح زائرها مَزيدًا من الدهشة والانبهار؛ بل طَوْد شامخ، وحارس يقض، ومُقاوم مُتوثب، ورفض مُتجدد، ومَجد وارف، وله من اسمه نصيب، ومَرارته التي هي أمر من الصَبِر، لا يتجرعها إلا كل مُعتدٍ أثيم.

كان جبل صبر وما يزال أبرز مَعاقل الكرامة، إنْ لم يكن أكبرها، وآخرها، ولأبنائه تاريخٌ مُشرف في مُقاومة الإمامة، تَصدوا في مَراحل مُتفرقة لتوغلاتها الوحشية، وحاربوها ببسالة، وقاوموها حتى آخر طلقة، وما تزال نفوسهم الجبارة القاهرة للمستحيل تأبي الانكسار والضيم، وما تزال عزيمتهم الوثابة الرافضة للكهنوت والظلم تستحضر بطولات الأمس، لتبقى على قيد ثورة.

ثلاثة محاور

ما أنْ اجتاحت قوات الإمام المُتوكل يحيى حميد الدين مدينة تعز، تحت قيادة قريبه أحمد بن قاسم ديسمبر 1918م، حتى سارع سكان تلك المدينة بالاستنجاد بمشايخ جبل صبر، والأفيوش (الأخيرة إحدى مناطق خدير)، فأمدهم أولئك المشايخ بالمُقاتلين، وذلك بالتزامن مع قدوم الضابط التركي إسماعيل الأسود من ريمة، ومعه عدد من الجنود، سلم الأخير الأسلحة التي بحوزته للمُقاومين، الذين كان مُقاتلي جبل صبر من ضمنهم، وشاركهم حربهم ضد الإماميين، وأجبروا الأخيرين على مُغادرة تلك المدينة بعد أسبوع واحد من مقدمهم. في تلك الأثناء، أعلن الشيخ محمد عايض العقاب انتفاضته في حُبيش، هجم وعدد من أبناء منطقته على العساكر الإماميين المُتواجدين هناك، قتل منهم عشرة، وقيل أكثر، وحاصر الباقين ومعهم قائدهم في مركز الناحية (ظَلْمَة)، وقد كانت تلك الانتفاضة ذريعة الاجتياح الإمامي بصورته الفظيعة، وقع الاختيار حينها لعلي بن عبدالله الوزير (الذئب الأسود) أنْ يكون أميرًا للجيش، وصدر الأمر المُتوكلي إليه بتأديب المُخالفين من أهل حبيش، وإصلاح جهات اليمن الأسفل.

بعد إخماده لانتفاضة حبيش، توجه الأمير علي الوزير صوب العدين، ثم تعز، ليدخل الأخيرة بقواته المُتحفزة ثالث أيام التشريق 9 سبتمبر 1919م، ولم يكد يحط رحاله فيها، وفي منزل أحمد علي باشا المُتوكل تحديدًا، ويأمر عساكره بالخِطاط في منازل مُواطني ذات المدينة، حتى فاجئه بعض أبناء جبل صبر بانتفاضة عارمة هدَّت كيانه. وكان ثوار جبل صبر قد استبقوا انتفاضتهم تلك بتدمير عدد من الثكنات العسكرية التي بناها الأتراك؛ كي لا يستفيد الإماميون منها، ثم قاموا بقطع المياه عن المدينة المنكوبة، وهجموا على حامياتها الإمامية، وقتلوا منها قتلوا، ثم انقضوا على مَجاميع قبلية من نِهم، كانت في مُؤخرة الجيش الإمامي الواصل لتوه، وأصلوها بعد معركة حامية كـأس المنون، وعن تلك المعركة قال المُؤرخ أحمد الوزير: «وكان الجيش قد قطع ذلك اليوم ما يقرب من 35 كم، مشيًا على الأقدام.. لتتلقفه قوات المُتمردين الرابضين على قمم الجبال، ورؤوس الآكام، ومَسارب المياه».

أما المُؤرخ حمود الدولة، الذي كان مُرافقًا للأمير علي الوزير في تلك الحملة، فقد صور هو الآخر ذلك المشهد بقوله: «ومر المجاهدون الطريق، وتبعهم البغاة وهم يدافعونهم، ويمرون على حالهم، ويحامون على غنيمتهم الموهوبة، وهم غير مُبالين بما يتبعهم من البغاة وصوائلهم، حتى وصلوا إلى قُرب المدينة، والمرمى عليهم من كل ناحية، على غير علم من الأمير والجيش بالتفصيل، إلى عند وصول المذكورين بالجود والعافية؛ فثار الجيش جميعه لثوران الأمير، وتحرك لاهتمامه الكبير والصغير».

وكان ثوار جبل صبر قد تقطعوا قبل ذلك للأمير علي الوزير نفسه، الذي كانوا ينعتونه بـ (الأعور)، وذلك في منطقتي الحوبان، وقاع إبليس (الموقع الأخير يقع تحت مستشفى الرفاعي حاليًا)، وهي الجزئية التي لم يعترف بها الـمؤرخ حمود الدولة، واعترف بها المُؤرخ أحمد الوزير بقوله: «وقد أمسى - يقصد عمه الأمير - ليلة خروجه من ذي السفال في القاعدة، ثم غادرها صباحًا إلى تعز، فتلقاه بعض كمائن من أهل صبر.. وأطلقوا الرصاص على جنوده، فأمر فصيلة من الجيش بمطاردتهم، فولوا هاربين». 

وتأكيدًا لما سبق، أفاد الباحث عُمر الشجاع - نقلًا عن والده، نقلًا عن قريبهما عبدالحميد الشجاع الذي عاصر تلك الأحداث - أنَّ ثُوار جبل صبر تمركزوا في لحظات انتفاضتهم الأولى في أكمة الأكابر (العكابر)، والأحياء المُجاورة لها، وذلك تحت قيادة البطل الثائر الشيخ ثابت مهيوب حاجب الصامت، وأنَّ أولى المُواجهات حدثت في منطقة قاع إبليس، أبلى فيها المُقامون بلاءً حسنًا، وأصيب منهم الشيخ أحمد علي بشر في قدمه، وأسر عبدالله محمد العدوف بعد إصابته.

وبالعودة إلى شهادة المُؤرخ الإمامي أحمد الوزير، فقد أفاد هو الآخر أنَّ الثوار استولوا على قلعة القاهرة أيضًا، وتحصنوا فيها وفي التباب المجاورة، وزاد في تعظيم خطورتهم قائلًا: «لذلك كان على قوات الأمير أنْ تخوض مَعركة غير مُتكافئة؛ معركة يقف فيها المجاهدون على أرضٍ مَكشوفة، وفي الإمكان اصطيادهم من أماكن مستورة، ومن مُرتفعات مُسيطر عليها بإحكام».

ما أنْ أدرك الذئب الأسود علي الوزير خطورة تلك الانتفاضة، حتى سارع في يوم وصوله المشؤوم، بالخروج من منزل أحمد علي باشا في العرضي، وتوجه راكبًا فوق حصانه صوب الباب الكبير، وهناك فًرَّق - كما أفاد ابن أخيه - قواته، حسب خطط حربية مُحكمة، ثم أدلف عائدًا إلى منزل الباشا، مُتابعًا سير معارك قواته الهجومية التي بدأت قبل غروب شمس ذلك اليوم عن بُعد، تنفيذًا لنصيحة النقيب عبدالله بن سعيد الجبري، الذي طلب منه المكوث في مدينة تعز؛ ليكون سندًا لهم في حال حدث أي طارئ، أو تحققت هزيمتهم. قَسَّم الأمير علي الوزير قواته - قبل عودته تلك - إلى ثلاثة محاور، قوات المحور الأول (الميمنة)، وكانت وجهتها منطقة صينة، ومنها كان صعودها إلى حدنان، ثم مشرعة، ثم أدود، ثم كان هبوطها إلى وادي الضباب، ومنه تَوجهت صوب المسراخ. وقوات المحور الثاني (الميسرة)، وقد كانت وجهتها منطقة ثعبات، وصالة، ثم كان مُرورها بعبدان، ثم عاودت التفافها وصولًا إلى المسراخ.  

أما المحور الثالث (القلب)، والذي كان من المُفترض أنْ يقوده الأمير علي الوزير بنفسه، لولا اعتراض الشيخ عبدالله الجبري كما سبق أنْ ذكرنا، فقد كان المحور الرئيس، وقاده الشيخ المذكور باقتدار، وكانت وجهة قواته منطقة ثعبات، ومنها كان صعودها إلى قُرى عزلة الموادم (الخَسِف، وقَرَاضَة، والقُويع، والكُريفة، والشِّعبْ، والجُبَة)، وصولًا إلى ذمرين، وسيعة، والمعقاب، والعروس، ثم كان هبوطها إلى حصبان، والتحامها بقوات الميمنة والميسرة في المسراخ.

وإلى قلعة القاهرة أرسل الأمير علي الوزير - كما أفاد ابن أخيه - جنودًا مخصوصين، تمكنوا بعد معركة سريعة من السيطرة عليها، بعد أنْ أجبروا المقاومين المتحصنين فيها على الاستسلام، وبذلك أمَنت تلك الفرقة مدينة تعز، خاصة بعد أنْ تم تعزيزها بأحد المدافع، فيما انحصرت مُواجهات أقرانهم في شعاب جبل صبر.

مُقاومة الموادم

احتدمت المُواجهات - كما أفاد المُؤرخ أحمد الوزير - في المحاور الثلاثة السابق ذكرها، وعنها قال ذات الـمؤرخ مُوضحًا خطورة الموقف: «كانت المواجهة هائلة بالفعل، فالجبل يتصعد في السماء بارتفاع حاد شاهق، وهو إلى ذلك واسع ومتشعب الأودية، والمتمردون يعرفون طرقه ومداخله ومخارجه، وقد سيطروا على نقاطه المهمة، وحشدوا قواتهم في المواقع الرئيسية»، وأضاف مُقارنًا: «كانت معركة صبر هائلة، تشبه بنتائجها وجسارتها معركة حُبيش، إلا أنَّ هذه أوسع من تلك وأكبر مدى، وإنْ كانت تلك أشد ضراوة، وأشد بأسًا، وأخطر مَوقفًا».

أما المُؤرخ حمود الدولة فقد غَلَب على حديثه تقريع المقاومين، والاستهزاء بهم، والانتقاص منهم، وقال: «وكان الأشرار من أهل صبر قد استعدوا عدتهم، وتجمعوا من جميع الجهات ركونًا على منعتهم وشدتهم، ولم يقدروا قدرهم، ولا علموا بعقولهم نفعهم وضرهم، ولا فرقوا بأفهامهم بين الأحوال، ولا عرفوا ما يؤول بهم بغيهم على إمامهم في الاستقبال». وبالغ المُؤرخ حمود الدولة بتوصيفاته المُكررة والمُملة، والتي غلب عليها الاستبطان والتكهن، ولم يكن الثوار حد وصفه إلا أشرارٌ بُغاة، يغالبون جيش الله، وخليفته في أرضه: وأوضح هذه الجزئية بقوله: «وأنَّه مع شدة أهل جبل صبر ومنعته، وكثرة رجاله وسعته، طمع الطامع في مُقابلة الإمام - أي مُواجهة الإمام - وظن الاستبداد والاستقلال على الدوام، ولم يهده عقله وقلبه، ولا أدرك الصواب فكره ولبه، ولا دار على ذهنه أنَّ الداعي له إلى الطاعة، هو أمير المؤمنين وخليفة الله في أرضه، يقيم ما قعد من السُنة والجماعة، وينعش من اندرس من الدين، ويهدي الأمة إلى سبيل الحق المُبين، ويذب عنهم نوائب الأزمان، ويدافع عن وطنهم كل صائل من عبدة الأوثان، وأنَّ جيش الله قد دهمهم، وراية آل رسول الله وأنصارهم قدامهم، وكان لله في ذلك عظيم القدرة، إذ سبق في علمه ما يجري بهم، كما لا يخفى عليه مثقال ذرة»!

لم يَصلنا للأسف الشديد من أخبار تلك المُواجهات إلا النزر اليسير، حيث طغا على الذاكرة الشفهية طابع الشكوى والتذمر، ونقل تفصيل الجُرم الإمامي في حق أبناء جبل صبر باستفاضة بالغة، دون الإشارة إلى بطولات من تصدوا لتلك الحملة، إلا ما ندر، وكواحد من أبناء الجبل، تعبت كثيرًا في استحضار جانبًا من تلك التفاصيل المُشرفة، تاركًا باقي المهمة للمهتمين، وللأيام القادمة إنْ كان في العمر بقية.

سأكتفي هنا بنقل حوادث استثنائية حصلت بالقرب من قريتي (المعاين - سيعة - صبر الموادم)، تركزت تفاصيلها في المحور الثالث (القلب)، وكانت في الأصل امتداد لمعركة قاع إبليس السابق ذكرها، وهي بمُجملها مثال ناجز لحوادث أخرى قد تكون إلى حدٍ ما مُشابهة، ولن أبخل - قطعًا - بنشر خفاياها - أي تلك الحوادث المُتصلة - حالما يمدني بها الرواة والمدونين الثقاة. 

زحفت قوات هذا المحور تحت قيادة النقيب عبدالله الجبري صوب منطقة ثعبات، وتمكنت بعد يومين من المُواجهات من اختراق ذلك الخط الدفاعي، واحتمال كبير أنَّ قوات المحور الثاني (الميسرة) ساعدتها في ذلك، قبل أنْ تكمل مسيرها صوب منطقة صالة، ثم عبدان، كما سبق أنْ ذكرنا. ما كان أنْ يتحقق للقوات الإمامية ذلك الاختراق؛ لولا قيام أحد قناصيها باعتلاء منارة مسجد ثعبات، وقيامه بقتل قائد تلك المقاومة الشيخ ثابت مهيوب حاجب الصامت، كان الأخير مُتمركزًا في سطح داره القريب من ذلك المسجد، ثابتًا في مَترسه، مُترصدًا للإماميين، وحوله في المنازل والتباب المُجاورة عدد من المقاومين، وحين رأى الأخيرون دماء قائدهم تسيل من الميزاب، أدركوا أنَّه قُتل، فأدلفوا راجعين إلى الجبل الشاهق، مُحتمين بتحصيناته.   

نصب الإماميون أحد مدافعهم في منطقة ثعبات، وتوجهوا بقضهم وقضيضهم صوب عُزلة الموادم المُقابلة، لتحدث في قرية قراضة - كما أفاد الباحث عمر الشجاع - مُناوشات محدودة، استشهد على إثرها الشيخ علي ناجي الصامت، والشيخ سيف عبدالملك محمد الصامت، وجُرح ابن عم الأخير محمد مدهش، وفي قرية الجُبَة حدثت معركة شرسة، استشهد فيها الشيخ عبدالمولى عبدالرحمن راجح الشجاع، وأحمد محمد مُقبل الشجاع.

تم في المعركة الأخيرة - كما أفاد ذات الباحث - أسر البطل أحمد قاسم الرامسي، وللأخير موقف بطولي تحفظه الذاكرة الشفهية جيدًا، أوهم مُعتقليه أنَّ بندقيته خالية من الرصاص، وأنَّه لن يُسلمها إلا لقائدهم، وما أنْ وصل إلى حضرة ذلك القائد، حتى أرداه برصاصته الوحيدة قتيلًا.

كانت خسائر الإماميين في معارك عزلة الموادم فادحة، وإلى جانب ذلك القائد الذي لم نحصل على اسمه، والذي لم يكن قطعًا النقيب عبدالله الجبري، فالأخير قال عنه المُؤرخ أحمد الوزير أنَّه «بطل حركة صبر بحق»، وكان لاسمه حضور في أحداث انتفاضتي المقاطرة، والبيضاء الآتي ذكرهما، وإلى جانب ذلك القائد مجهول الاسم، خسر الإماميون - كما أفاد الشيخ عبدالرحمن سعيد - حوالي 70 مُقاتلًا، غير الجرحى، وهو أمر لم يعترف به مُؤرخو الإمامة بتاتًا.

سقطت عزلة الموادم، وسقطت قُراها المتناثرة، وغادر سُكانها منازلهم إلى القرى المـُجاورة، واستقر معظمهم في منطقة الديم، وشرقي صبر، وجرت في حقهم حوادث إذلالية سافرة، سنأتي على تناولها تفصيلًا في السطور الآتية.

مُقاومة سيعة

     استمر مَسير القوات الإمامية صعودًا، واستولوا على قرى جبل صبر المُتناثرة، بِقتال أو بغير قتال، وصولًا إلى عزلة المعقاب، وقبلها عزلة سيعة، وفي الأخيرة القابعة أسفل قمة الجبل (العروس) من جهة الغرب، تصدى بنو المحيا وغيرهم لذلك التوغل المُوحش، وحدثت اشرس المُواجهات في قرية المساحين المجاورة لقريتي، وتصدر المقاومة فيها البطلان الشيخ راجح محمد المحيا، والشيخ عبدالله عبدالرحمن محمد المحيا، وقد حدثني قريب الأخير الشيخ عبدالجليل محمود عن بُطولات بني قبيلته المائزة.

قال عبدالجليل أنَّه وعلى مشارف قريته (المساحين) لقي أكثر من 15 عسكريًا إماميًا مَصرعهم، وأنَّ المُقاومين رموا بجثثهم في دهاليز أحد مَدافن الحبوب القديمة، ثم قَاموا بردم ذلك المدفن، وأنَّ الشيخ عبدالله عبدالرحمن قَاوم حتى لم يتبق معه إلا رصاصة واحدة، ليجد نفسه - أي الشيخ عبدالله - فجأة بمُواجهة أحد العساكر المُتمركزين فوق أسطح أحد المنازل، يطلب منه الاستسلام، أظهر له رأس بندقيته تمويهًا، وما أنْ أطلق ذلك العسكري النار، حتى حدد مكانه، وأرداه من فوره قتيلًا.

لم يُغادر ذلك الثائر مَترسه إلا بعد أنْ رأى دم العسكري يخرج من الميزاب، وما أنْ خاطر وتجاوز حدود قريته المـُحاصرة، حتى سمع صوت الشيخ راجح محمد شريكه في المقاومة، والذي كان قد غادر القرية قبله، يناديه من الجهة الأخرى: «مشامش.. مشامش»، ففطن أنَّ المقصود المرور من حول المشامش، وهكذا تمكن ذلك البطل المقاوم من اللحاق بأفراد قريته عبر ذلك الطريق الآمن، وقد استقروا جميعًا في عزلة وتير المُجاورة، وذلك حتى انقشاع تلك الغُمة.  

اقتحم الإماميون قرية المساحين، ووجدوا أمامهم أحد سكانها من مُعتنقي الديانة اليهودية، استخدموه كدليل، ثم اقتحموا بيت عبدالحق حسن، ووجدوا فيه طفلة وحيدة تبكي، وحين تَأكد لفرقة الاستطلاع أنَّ القرية خالية، رموا أحد الفرش من إحدى نوافذ ذلك المنزل، وهكذا توافد بقية العساكر، ولم يغادروا تلك القرية إلا بعد أنْ تركوها خاوية على عروشها.

مُكافأة مالية

النهب لم يطال قرية المساحين وحدها؛ بل طال جميع القُرى المُجاورة، وقرى جبل صبر قاطبة، وقد حدثتني جدتي المرحومة مسك أحمد عبده نقلًا عن والدتها التي عاصرت تلك الأحداث، أنَّ الأخيرة رأت عساكر الإمام ينهبون قُرى عزلة سيعة، وذلك من على أحوال التُتن (الرَجِمة)، والأخيرة مرتفع شاهق نزح إليه جانبًا من أبناء تلك العُزلة، فيما نزح آخرون - كما سبق أنْ ذكرنا - إلى عزلة وتير. 

المشهد الذي تذكرت جدتي مسك تفاصيله جيدًا، تمثل بقيادة العساكر المُتفيدين لأبقار وأغنام المواطنين فوق طريق طويل ومُشرف، يصل العزلة بمنطقة ذمرين المُطلة على مدينة تعز، فيما الرعية المكلومون، أصحاب ذلك القطيع الكبير، تكاد قلوبهم تنفطر، وهم يُلقون على مواشيهم نظرة الوداع الأخيرة.

وأضافت جدتي - رحمها الله - أنَّ إحدى الأبقار شَرَدت عن ذلك القطيع المنهوب، وسقطت في إحدى الجروف السحيقة، وأنَّ المُتفيدين تركوها بعد أنْ عجزوا عن أخذها لحال سبيلها، وأنَّ مواطني المنطقة استعادوا تلك البقرة فيما بعد، واستفادوا منها أيامًا عديدة، وكانت من أهم مصادر تغذيتهم، حتى تحسن حالهم، واشتروا أبقارًا وأغنامًا جديدة.

وحسب حديث جدتي أنَّ الذئب الأسود أمر عَساكره المُتعطشة للفيد باستباحة جبل صبر لثلاثة أيام، وأن النهب طال غير مواشي المواطنين، أموالهم المدخرة، وأثاثهم المُهترئة، وحبوبهم المُخزنة، وعن ذلك قال المُؤرخ الإمامي عبدالكريم مُطهر مُتباهيًا: «واحتوى الجند على غنائم عظيمة، وأموال جسيمة».

كما أمر الأمير علي الوزير بمُصادرة ما بحوزة المواطنين من سلاح وذخائر؛ كي لا تدور عليه من قبلهم الدوائر، التي كان مُعظمها من الأسلحة العثمانية التي أعطاها لهم الضابط التركي إسماعيل الأسود، ومن قبله اللواء علي سعيد باشا (قائد حملة لحج)، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «شرع - يقصد الأمير - في جمع ما كان بأيدي أهل صبر من سلاح الحكومة العثمانية». مارس الذئب الأسود في حق أبناء جبل صبر بشكل عام، وفي حق المقاومين بشكل خاص جرائم حرب شنيعة، استمر بمُطاردة الأخيرين، وأعلن عن مُكافأة مالية لمن يأتيه برأس أحدهم، وعن ذلك قال المُؤرخ محمد المجاهد: «واستمرت مُطاردة الفارين من قادة المقاومة الصبريين، وأعلنت مُكافأة لكل من يأتي برأس أحدهم قدرها ريـالاً فضيًا، وكان هذا كثير في تلك الفترة، وكان يُؤتى بالرأس مَكتوبًا عليه اسم صاحبه، ويقبض القاتل المُكافأة»!

من جهته أفاد المهندس أحمد محمد علي عثمان أنَّ المُكافأة المالية التي حددها علي الوزير لعساكره قدرها ستة ريالات فرنصية، مُستشهدًا بقصة حدثت في إطار منزل جده وخال والده مُحرم زيوار الكائن في منطقة الجحملية، حيث قام أحد العساكر بالاعتداء على صاحب المنزل، وطعنه في يده، وهو الأمر الذي أثار حمية أخ زوجته فاطمه، الثائر الصبري أحمد سعيد سعد، الذي اردى المعتدي قتيلًا، فما كان من أصحاب القتيل إلا أنْ طاردوا ذلك الثائر، وتمكنوا من القبض عليه، ثم قاموا بطعنه وتقطيعه، وفصل رأسه عن جسده، وتقديم ذلك الرأس قُربانًا لنزق سيدهم الأمير، وطمعًا في المُكافأة، ولم يمض من الوقت الكثير حتى ألحقوا به أخاه هزاع.

وحول هذه الجزئية ثَمة حكاية مُتصلة أوردها الباحث عمر الشجاع، مَفادها أنَّ بعض العساكر المُتفيدين قاموا فور علمهم بخبر مُكافأة أميرهم (علي الوزير) بقتل رجل أعمى طاعن بالسن يُدعى سعيد يحيى إسماعيل النحلة، كان مُختبئًا في كهف حود فتانا في منطقة السهوة التابعة لقرية قراضة، وبمعنى أصح كان نازحًا في ذلك الكهف بفعل المُواجهات السابق ذكرها. وإكمالًا لذلك المشهد الدموي قال المُؤرخ أحمد الوزير: أنَّ عمه الأمير علق رؤوس قادة المقاومة فوق سور منزل أحمد علي باشا الذي يقيم فيه، مُؤولًا هذه الحادثة على هواه، موضحًا أنَّ الغرض منها تمثل بإغاظة صاحب المنزل الذي اتهمه بالتواطؤ مع الثوار، ناقلًا عن الأخير مقولة: «الآن انتهينا»؛ خاصة بعد أنْ رأى أصدقاء له من بني بشر ضمن القتلى!

لم يشر المُؤرخان حمود الدولة وعبدالكريم مطهر إلى ذلك التواطؤ، وأشاد الأخير بدور الباشا في تثبيت حكم الإمامة في لواء تعز، واكتفى بالقول: «وكثرت منهم القتلى - يقصد المقاومين - واحتزت منهم رؤوس، ونزل بساحتهم جزاءً لبغيهم مرارة البؤس»، وأضاف مكملًا المشهد من وجهة نظر إمامية: «وأتى الأمير بالأسرى تترى بالأمان، بعد أنْ أخلد أهل صبر إلى الطاعة، وندموا على ما فعلوا، وعلموا أنَّهم جلبوا على أنفسهم هذه الحرب الضروس، واستعجلوا يوم حتوفهم بما لاقوه في ذلك اليوم العبوس».

أما المُؤرخ حمود الدولة، فقد أسهب كعادته في السرد الإنشائي، الخالي من المعلومة المفيدة، والتفاصيل الشارحة، وجاء حديثه عن هزيمة الثوار، وما لاقوه من صنوف الذل والهون، مَشحونًا بالمُبالغة المُقززة، على اعتبار أنَّ رفضهم الدخول في طاعة سيده الإمام، رفض للدخول في طاعة الله جلَّ في عُلاه! 

ومن حديث المُؤرخ حمود الدولة الطويل نقتطف: «وأظلهم - أي الثوار - من البلاء ليل كان شره مُستطيرا: قذفت السماء عليهم من رجومها، وأصلتهم الأرض بصيب سهومها، وتفجرت من أبدانهم ينابيع كلومها، وتصرعت قتلاؤهم في كل جهة وناحية، وكانوا في المثل كأعجاز نخل خاوية، ترتعي أبدانهم السباع والطيور، وتفري أشلاءهم الغرابيب والنسور»! وأضاف: «ولقد حل بهم البوؤس، وحزت منهم حم الرؤوس، وكثرت منهم الأسارى، وهم مما نابهم حيارى، وداهمتهم الدواهي، وما أغنى عنهم من الله من شيء مما أعدوه من الملاعب والملاهي. وكانوا عبرة للمعتبرين، ومثلات للمجترين، وزاجرًا لكل مُتحرك، ورادعًا من كل مُتأبط ومُتهتك»! ما أنْ أحكمت القوات الإمامية سيطرتها على جبل صبر، حتى جاءت - كما أفاد الشيخ عبدالرحمن سعيد - أوامر الأمير علي الوزير لها بالخِطاط في منازل المواطنين، وبالأخص الدُور المشرفة، واستخدامها كثكنات حربية، ومن تلك الدُور: دار السلف في الدمغة، ودار الغيظة في الخسف، وداري المراغة والشجاع في قراضة، ودار الصليلة في الخشبة، ودار الطوينة في الشِّعب، ودار النَجد في القويع، وداري الممطار والتؤالبي في الجباري، ودار النود في النراعية، ودار الحصاني في حِدة، ودار أكمة الموز في العنين، والأخير يُطل على عُزلتي مشرعة وسيعة.   وأتبع الأمير علي الوزير سيطرته تلك بأخذ رهائن الطاعة من مشايخ وأعيان جبل صبر، وعلى سبيل المثال لا الحصر أخذ من قرية قراضة عبدالحميد محمد سعيد الشجاع، وأحمد عبدالجليل الحميدي، وحمود مدهش الصامت، ومن قرية الجُبَة أخذ علي عبده الحاج الشجاع، وأرسلهم جميعًا الى سجن الحدا في ذمار، أما الشيخ الجريح أحمد علي بشر فقد تم إرساله إلى سجن حجة، رهينة عن أخيه الشيخ محمد علي بشر، ولم يتم الإفراج عنه إلا بعد مرور ثلاث سنوات. بعد إخماده لانتفاضة جبل صبر، بعث الأمير علي الوزير بقصيدة طويلة إلى الإمام يحيى، نثر فيها بزهو انجازاته وانتصاراته التي حققها مُنذ تحركه من مدينة صنعاء، حتى وصوله إلى مدينة تعز، ومنها نقتطف:

وفي صبــرٍ عــلـونــــاه بصـبــر

هو الجبل المنيف على الغمــــام

فــوافــاه الجنـــــود بصدق عزمٍ

وطعـــــن المُـرهــفـات وبالسهام

وكـــان صـــــلاحهم وبذاك ذلت

جميـــع البـاغيــيـن مــن الطغام

تصرفات إذلالية

بالغ الذئب الأسود في إذلال أبناء جبل صبر، إرهابًا لغيرهم من أبناء لواء تعز، وهو ما أكده المُؤرخ مُطهر بقوله: «وقد كان لتلك الوقائع صدىً أقام ناموس الهيبة، وأسكن في النفوس المترددة من الطاعة معنى الخيبة، فأقبل الناس إلى الطاعة أفواجًا، وأمتلأ مقام الأمير بالرؤساء والمشايخ، وبذلوا الرهائن المختارة، وانقادوا».

أعطى الأمير علي الوزير عمالة جبل صبر لحسين بن محمد جبالة، وإمعانًا في إذلال سكان ذلك الجبل الصلد، انتقل هو نفسه للإقامة في منطقة صهلة 1921م، وذلك بعد أنْ قام بنهب منزل الشيخ محمد حسن بشر، المطل على مدينة تعز، وأكمل بناءه، ونقل إليه أهله، وأسماه بـ (دار النصر)، النصر على أبناء الجبل وغيرهم، وهو الاسم الذي أعطاه أيضًا لذات المنطقة، ثم أتبع ذلك ببناء منزل آخر أسماه (دار الشرف)، وطلا كلا الدارين بالنورة، وأنارهما بالكهرباء، بعد أنْ استقدم مُولدًا كبيرًا لذات الغرض.

وأتبع ذلك ببناء مسجد، وبرندة، ومدرسة خاصة بأبناء رجالات إمارته، ومحكمة، ومفرج، وجعل من تلك المنطقة - كما أفاد ابن أخيه - قاعدة للواء تعز، ومنع سكانها من البناء في الأماكن المُشرفة، واستحدث في مَداخل القرى المجاورة، وفي التباب المطلة على مقر إقامته أربع نوب حربية، وذلك بعد حادثة تنكيله بمشايخ تعز السابق ذكرها مارس 1923م، وأرفد تلك النوب بمجاميع قبلية من خُلص أنصاره، ورتب في قرية الخسف الواقعة أسفل صهلة الشيخ صالح الطماح ومعه مجاميع من قبيلة بني عبد التابعة لعيال يزيد، وجعل منزل ذلك الشيخ المُستحدث سجنًا سياسيًا.

أما النوب الأربع السابق ذكرها، فقد كانت الأولى (نوبة الاحناش) على طريق قريتي الكُريفة، والقُويع، وجعل الذئب الأسود فيها مجاميع من حاشد تحت قيادة الشيخ حمود الأبيض، والثانية (نوبة صبل النظام) في محلة العكد من قراضة العليا، على طريق قريتي القويع، والجُبَة، وجعل فيها النقيب محمد الشايف، ومجاميع بكيلية من بيت العذري، وقد كان هذا النقيب - كما أفاد الباحث عمر الشجاع - من أفضل القادة، وأعدلهم، تأثر بالفكر الصوفي السائد حينها، واستقر في دار الشجاع بضيافة الشيخ عبدالرحمن محمد الشجاع، وتوفي في ذات المنطقة، ودُفن في تُربة الشيخ عبدالقادر بن يحيى الطيب.

أما النوبة الثالثة فقد كانت تحت قرية الشِّعب، وجعل فيها الذئب الأسود مجاميع حاشدية تحت قيادة العريف يحيى بن سرحان المحجاني (كان له الدور الأبرز في إحباط حركة المقدم الثلايا أبريل 1955م)، وأخوه عبدالله، والرابعة (نوبة الجباري)، وجعل عليها الشيخ حميد الرداعي ومجاميع حاشدية أيضًا، وكانت هذه النوبة مُطلة على قرية الشِّعب وعلى النوب الأخرى، ومجاورة لدار الممطار (دار الشيخ بشر بن علي الصامت) الذي تم تحويله أيضًا إلى سجن.  ذكر الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان سجن الممطار هذا في قصيدته التي خلَّد فيها توجه القاضي محمد محمود الزبيري والأستاذ أحمد محمد نعمان إلى عدن يونيو 1944م، واختيارهما نهج المعارضة العلنية لحكم الإمامة المظلم، حيث قال فيهما وفيه:

صقران عافا الــــذل إذا فطنــا لما

بهمــــا يُــراد مـن الهـوان فطــارا

طيرًا إلى خلف البسيطة حيـث لا

تجـدان قــاهــرة ولا ممـطـــــارا

إلى ذلك تحدث الباحث عمر الشجاع عن وجود نوبة خامسة (نوبة قراضة) في محلة الحومرة، وأفاد أنَّ مهمتها المُزدوجة تمثلت بحماية دار النصر، وقلعة القاهرة على السواء. والراجح أنَّ هذه النوبة أمر الأمير علي الوزير بتشييدها فور انتقاله إلى صِهلة، وفي المُحصلة التراجيدية عمد أبناء المنطقة بعد قيام الثورة السبتمبرية على هدم تلك النوب الحربية؛ كي لا تذكرهم بسنوات الظلم والإذلال والشتات الذي عاشه أباءهم، وحلت محلها منازل عامرة بالمحبة والود.

وتفيد الذاكرة الشفهية أنَّ التصرفات الإذلالية الإمامية في حق أبناء جبل صبر لم تتوقف عند ذلك الحد، فقد كان المواطنين عُرضة للنهب والاعتقال، بذرائع واهية، وبالأخص حال نزولهم إلى مدينة تعز للتسوق؛ ومن هنا بدأ أولئك المـُتضررون يُرسلون بنسائهم بدلًا عنهم، مُستفيدون من الأعراف القبلية التي لا تجيز لعساكر الإمامة القبليين التعرض للنساء.

صحيح أنَّ مَعارك جبل صبر كانت - كما أفاد المُؤرخ أحمد الوزير - فاصلة وحاسمة، هذا فيما يَخص الجانب الإمامي، إلا أنَّها فيما يخص الجانب الصبري، كانت عفوية، وغير مُنظمة، فرضتها تلك المرحلة القاسية، وتصدرها بعض ثوار الجبل المغمورين، بأسلحتهم المتواضعة، والذين لم يكونوا في الأصل منضوين تحت قيادة واحدة؛ ولهذا سهل استنزاف طاقاتهم، وإهدار ذخيرتهم، واختراق صفوفهم، وتفريق شملهم، خلال مدة يسيرة تجاوزت الثلاثة الأيام.

ومع ذلك لم تتوقف روح الرفض والتمرد عند أبناء جبل صبر، وما هي إلا سبعة أشهر من حدوث تلك الانتفاضة، حتى قام أبناء عزلة صَنِمَات - موضوعنا التالي - بقتل 50 فردًا من عساكر الذئب الأسود الأجلاف مايو 1920م، في حادثة أهتز لها الجبل من ذروة رأسه حتى أخمص قدميه، وما تزال تلك الروح الوثابة، الرافضة للظلم، والمُنتصرة للكرامة، تُقاوم وتقاوم حتى اللحظة.

 

المصدر - صحيفة 26 سبتمبر

الحجر الصحفي في زمن الحوثي