«تعز».. مأوى الأحرار

عارف أبو حاتم
الخميس ، ٠٣ سبتمبر ٢٠١٥ الساعة ١٠:٥١ صباحاً

 

«قربت نهاية عبدالله سعد» جملة عابرة سمعتها في العام 1999، حين تم تعيين الصحفي والسياسي المعارض ابن تعز عبدالله سعد رئيساً لتحرير صحيفة الوحدة، ومن ثم اغتياله من قبل الحرس الرئاسي بطريقة مفضوحة، فقد دعاه الرئيس صالح إلى مرافقته برحلة من صنعاء إلى قصر سيئون التاريخي بحضرموت وهناك قيل إنه سقط من نافذة القصر، لم يمكث بعدها غير أيام قليلة ورحل عن دنيانا. كانت تلك إحدى أساليب صالح أن يقضي على أعتى خصومه بعد أن يقربهم منه، حتى يغسل يديه من أي تهمة، أما إذا قربوا وولغوا في الفساد المالي والأخلاقي، فإنهم يستمرون مع صاحب الفضيلة-الرذيلة.

 

أتذكر حادثة «سعد» ومثلها حوادث عدد من السياسيين واصطحبها إلى تعز التي قال صالح لوفد من أبنائها: «لم يخلق من يهدد تعز، وإن شاء الله سأزوركم الأسبوع المقبل».. وفعلاً زارهم بعد أسبوع بجيشه ومقاتليه، ودمر فيها كل ما يريد، وما لا يريد.. وحين عتب عليه أنصاره قال لهم الجيش ليس بيدي، من يحرك الجيش الآن هو الحوثي.

 

صالح عمل في تعز قائداً لأمنها في منتصف سبعينيات القرن الماضي، ومنها مباشرة إلى كرسي الرئاسة في عملية نسقت لها مخابرات خارجية كان وثيق الصلة بها، وفي 17 يوليو1978 أدى اليمين الدستورية رئيساً لليمن الشمالي، فيما ظلت عقدة تعز تعمل في ذهن صالح، فهذه عاصمة التنوير والتثوير، ومنها جاء قادة التغيير، صحيح أنه لا حاكم في اليمن الشمالي جاء من تعز، لكنها ولّادة بالأحرار والمثقفين القادرين عل قلب المعادلة السياسية متى شاءوا، وتعز التي آوت كثيراً من رموز التحرير في كل اليمن، هي أيضاً من أنجبت الأبطال الذين هبوا للدفاع عن صنعاء أثناء حصار السبعين يوماً في 1967 بعد أن كادت ثورة سبتمبر 1962 أن تفشل، ويعود الحكم الإمامي الكهنوتي.

 

وعلى نسق المثل «أقرب من الخوف تأمن» أتخذها الإمام أحمد عاصمة لدولته الممتدة بين 1948-1962 حتى يأمن عدم قيام ثورة ضده، ويخلص من ضجيج القبائل في شمال الشمال.. وعلى بعد عدة كيلومترات من قصره أسس رائد التغيير في اليمن المفكر أحمد محمد نعمان أول مدرسة، وفيها أخذ يعلم الأطفال خلسةً من عيون طاغية القصر.

 

تعز الواقعة جنوب صنعاء 270 كلم، مساحتها 42 ألف كلم، وهي الأولى في الكثافة السكانية بعدد يتجاوز أربعة ملايين نسمة، وتشتهر بنزوع أهلها إلى المدنية والتعليم والاختصاص في المهن، وإليها وفَدَ أول مبعوث لرسول الله معاذ بن جبل، ولايزال مسجده قائماً إلى اليوم، وفيها مساحات زراعية واسعة، فضلاً عن وجود أكبر تجمع صناعي في البلاد، وفيها كبار رجال الأعمال، وينتشر أهلها في كل مديريات اليمن؛ اختصاصيين وتجار وحرفيين.

 

تعز التي يقول عنها أحد السياسيين اليمنيين «إذا خرجت تعز ضد حاكم فيجب البدء بالعد التنازلي».. كانت هي عقدة صالح وحاول قتلها بأدوات ناعمة لم ينتبه لها الكثيرون، فقد أوقف مطارها لسنوات طويلة، ولم يجدد فيه شيء، وحين عاد كان شبه ميت، وجمد نشاط ميناء المخا التاريخي وبهذا أغلق المنفذان التي كانت تعز تطل منهما على العالم، وظل يتعسفها إلى درجة أنه لم ينشأ لها مشروع مياه طوال فترة حكمه، رغم تأكيدات المعنيين أن لا حل لمياه تعز ألا بمحطة تحلية، وكانت طريق تعز-صنعاء من أبرز مآسي صالح في اليمن، وإذا ما تمت عملية إحصائية دقيقة لعدد الذين قضوا نتيجة الحوادث المرورية في هذا الطريق، خلال حكم صالح، فإنهم بالآلاف.

 

في 2011 تحققت مخاوف صالح وقدحت شرارة الثورة من تعز، عشية تنحي مبارك عن حكم مصر، وفي صنعاء كان شباب تعز في طلائع من ينصبون الخيام ويحشدون الناس إلى ساحة التغيير، وفي 29 مايو2011 نفذ صالح محرقة تعز الشهيرة واحرق ساحة التغيير بمن فيها، بعدها بـ3 أيام فقط أحرقه الله ورموز نظامه بانفجار جامع الرئاسة.

 

صالح يصفي اليوم حساباته مع تعز التي قهرته، وأراد المعاملة بالمثل ويقهر الأرض والإنسان، فتوجه نحوها بأبشع ما لديه وأعتى ما يملك، ضربها بقوة كائن خرافي أفرغ غضبه فوق رأس طفل، نصب الصواريخ والمدافع على محيط تعز وقصف عشوائياً، لا يهم أن كان سيضرب مسكن أم مدرسة أم مستشفى، المهم أن تموت تعز.

 

بخبرته العسكرية يعرف صالح أن تعز هي محصلة كل المعادلات وأي حسم للمعركة فيها، سيكون منطلقاً لتحرير كل اليمن، فالإنسان التعزي لا يمكنه التوقف عند تعزّيته، بل عند وطنه الكبير اليمن، ويعرف صالح أن تعز هي مولد ضخم للثورات والحريات، وكثيراً ما أخافته أشعة التحرر المتصاعدة منها، حاول قتلها مرات عديدة، فتخرج من بين الرماد كالعنقاء، خرافيةً لا تموت.. مدينة أنساه الحب أن تموت.

 

تعز عصية على التصنيفات فمنها انطلقت التنظيمات السياسية، فيها ولد التنظيم الناصري والآخر البعثي والإخوان المسلمون، واليسار العتيد، كانت مأوى لأحرار الاشتراكية الجنوبيين مثل عبدالله عبدالرزاق باذيب، وملاذاً للأرواح النقية، كيف لا؟ وهي مهبط روح الصوفي الجليل أحمد بن علوان الذي عاش في القرن السابع الهجري، ولايزال «مقام المحبة» مزاراً للباحثين عن العشق في ملكوت الله.

 

هل جربتم عشق الله في مخلوقاته؟

 

إذن زوروا تعز، فهي مدينة نسيت ذاتها واستعصمت بالحب، وصاحت: تجلى يا عروتي الوثقى.

 

على نقيضها يعيش صالح الذي دفع حزبه لإصدار بيان إدانة لاقتحام قصره المهيب في تعز، ويا لسخافة القطيع.. فعلاً غضبوا لاقتحام قصره ولم يغضبوا لهدم مدينة فوق رؤوس ساكنيها..

الحجر الصحفي في زمن الحوثي