انتشرت ظاهرة الإلحاد أو بالأصح التمرد على الأديان برمتها، وليس الإسلام على وجه التحديد، سبق وأن تمرد ملايين اليهود على ديانتهم لانحرافها وفق منظورهم. ولأن اليهودية في الأساس تشتمل على الأصول العرقية والدينية ،فقد تمردوا على الديانة واحتفظوا بالتعصب العرقي اليهودي كأبناء عمومتهم في اليمن. فأصبح الدين مساحيق وأقنعة يهرطقون بها أمام الإسلام والمسيحية واليهودية معاً. وكخلاصة لدراسة أجراها مركز بيو للأبحاث في العام 2011م وجدت أن نصف اليهود الأمريكيين لديهم شك حول وجود الله. وبحسب تصريح للمفكر الفرنسي "رجاء جارودي" فإن مؤسسي دولة إسرائيل هم من الملاحدة اليهود بدايةً من تيودور هرتزل وانتهاءاً بديفيد بن غوريون. فهل ألحدت الصهيونية كنظام، أم المنكرين لهواها كعصابة؟
حذا المسيحيون حذوهم، وتمرد الملايين منهم على المسيحية لانحرافها الديني والأخلاقي، ووسَّعت القيود الدينية التي صنعتها الكنيسة بمذاهبها الثلاثة الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت مساحات الكفر بها، لأنها عطّلت العقل وشنقت الفلاسفة وقيَّدت حركة العلوم واعتبرتها كُفرًا بواح. وبعد حرب الثلاثين عامًا والتي كانت حربًا مذهبيةً بامتياز، تحررت الشعوب الأوروبية من الأنظمة الكهنوتية التي دعمتها الكنيسة وعززها رجال دينها. فهل كفرت تلك الأنظمة بالمسيحية أم أن الشعوب هي التي سعت إلى كسر قيودها فكفرت؟
وإذا ما قرأنا حياة الفلاسفة كل الفلاسفة الذين اتُهموا بالتمرد على الأديان، سنجد أنه لم يكن تمردهم إلحاداً منهم ورفضا كليّاً بما جاءت به الأديان السماوية، وإنما ردة فعل وكفر بكل فكرةٍ تنافت مع مقتضيات العقل وتصادمت مع الفطرة الإنسانية السليمة، لاسيما تلك التي ابتدعها الكهنة لخدمة حكم الطغاة، وأنكروا اغتصاب الأنظمة الدينية الكهنوتية لعقولهم عن طريق سجونهم وحرمانهم من الإجابة على أسئلة أفرزتها قراءاتهم وإبداعات عقولهم السليمة، حول الكون والطبيعة والوجود والحياة والموت والقوانين وغيرها من الأسئلة.
وعليه لم يكفر الفلاسفة بالأديان ولم يهزموها، وإنما كفرت الأنظمة المتمردة على كل الشرائع السماوية وحاربت العلم والعلماء، واستهجنت استخدام العقل وأنكرت العدل والمساواة، ومعها النظم التي صادرت حريات وحقوق الشعوب الإنسانية، وكفرت بقيم الدولة المدنية الحضارية المعاصرة، الدولة التي أصابت شباب الأمة باليأس وأغلقت أمامهم كل فضاء وحولت مسارات العيش إلى أقبية سلطانية مظلمة.
أصابت هذه الظاهرة الإسلام في وقت مبكر من عهود الزندقة وفرق الكفر الأصغر والأكبر التي بتهمتها قُتل الشاعر بشار بن برد، والشاعر لسان الدين بن الخطيب المُرادي، وحمَّلَهُ الكثير أي الإسلام وزر ما وصلت إليه أحوال الأمة الإسلامية، وما أصابها من تخلف، وتشرذم، وكهنوت، واستغلال للدين، واستخدامه كحصان طروادة، لتمرير المشاريع السياسية اللاوطنية، كالحوثية السلالية في اليمن والصفوية الإيرانية وبعض الفرق الإسلامية السنية الـتي أصبحت أداة بيد الطغاة تفتي بحسب الطلب والهوى والمصلحة، وتلوي أعناق النصوص القرآنية حيناً وتبتدع الأحاديث في أحايينٍ أُخر.
فمن الذي كفر بقيم العدل والسلام هنا وتمرد على الدين؟
وعليه، فقد دفعت صرخات الإسلام السياسي وتشددها باتجاه مصادرة حريات وحقوق الشباب، وأجبرتهم على اعتناق عبودية القهر السُلالي، وسحق ذواتهم اليمنية التي كرمها الله، وحملت جينات شموخ القياد الحضاري لآلاف السنين.
إذن كيف لهم أن لا يتمردوا على إسلام يقول بعصمة شخص يقوم مقام النبي وينوب عن الله في الأرض، ويجيز لنفسه ما جاز للأنبياء، ويجعل من نفسه واسطة بين الخلق والخالق، ولا تشرق الشمس ولا تغيب ويتنزل القطر من السماء إلا بإذنه، فإن أصاب الناس الخير فببركته وإن شحت عليهم فمن غضبه..
وأنهم خُلقوا ليحكُموا وأن باقي الخلق خُلقوا عبيدًا محكومين، وفي دينهم لا يُقاد أحدهم بيمني، كما لا يُقاد المسلم بالعبد ولا الرجل بامرأة. فمن الذي كفر هنا وأنكر حقوق الناس وتنكر للدين والخالق وجحد تعاليمه ومبادئه؟ كيف لليمنيين أن يؤمنوا بدين سلالة، تشكك برجولتهم وتتهم آبائهم وأجدادهم بالعهر والدياثة، ورمى أمهاتهم بالرذيلة والفحُش، وتجعل منهم أدوات إنتاجية حصريًا لها وتروس آلات الحروب التي لم تنته منذ 1200 سنة! فمن الذي كفر بالإسلام وأخلاقياته السمحاء تجاه المرأة وصان عرضها وحقوقها؟!..
فهل تلام الضحية على تعثرها في طريقٍ خراب وصحراءٍ يباب، هل تُتْرك جرائم العصابات الدينية الإجرامية وأشباه الأنظمة، ويلقى باللائمة كلها على أمةٍ أجثاها الفقر، وأقعدتها الحاجة وأعماها الجهل وأسالت دماءها ضباع خرافات الحق الإلهي، دون وازعٍ من دين أو عقلٍ أو إباء نفس ويقال لهم لما تمردتم على ديننا؟! إن الحقيقة الجلية هي أن ظاهرة الإلحاد في اليمن لم تأتِ إلا كنتيجة حتمية لكفر العصابات الدينية السلالية والمذهبية المحقونة بحقد سلالي عرقي مذهبي متوحش كفرت بالدولة والدين، وأنكرت قيم العدل والمساواة، وارتكبت الجرائم اللامتناهية بغرض التسيُّد وغمط حقوق العباد..
ولم يُنكر ملحدي اليمن فكرة الدين وإنما كفروا بما جاءت به تلك العصابة التي تريد الناس أن يؤمنوا بدينها الغريب، وأنه لا إيمان لمؤمن مالم يؤمن بحقها المزعوم في الحكم ودفع خُمس ما يكسب لقاء السلامة والعيش في بلده آمن.. فكيف للشباب أن لا يتمرد على الدين ويكفر بكل ما جاء به ويبحث عن دينٍ أو إلهٍ آخر يحفظ له حريته وعرضه، نفسه، ماله وكرامته! فأين إلحاد الملحدين من إلحاد وبشاعة هؤلاء؟
وإذن، لم يكفر الملحدون والمفكرون الباحثون عن الدولة في اليمن، وإنما كفرت الفئة المتغلبة المغتصبة للسلطة والتي كفرت بقيم الدين والدولة، ومارست وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2564 عبر رجلها المقبور سلطان زابن الذي ذكره بالاسم وأكّد على اختطافه لليمنيات تعذيب النساء في سجونه السرية وارتكابه بحقهن كل الفواحش ولا زالت في غيها سادرة.
بيد أن اليمن الحديث الذي أنجب علي البخيتي المتمرد على الدين والرافض لحق السلالة بقراءة ودراية امتلكها، لم يمتلكها غيره من ملحدي العرب، اكتسبها نتيجةً لنشأته في مجتمع ذماري مذهبي زيدي متعصب، حفظ الآيات التي يجادل بها والأحاديث التي شككته بالدين، وعززتها دراسته في كلية الشريعة، وعمله مع عصابة دينية جعلت منه زعيم الملحدين العرب المدافعين عن الدولة العلمانية والإلحاد لن ينهزم. وحتماً سينتصر اليمن ولن يتراجع، ولن ينحني وفيه مُخالِفُه ومُناظِرُهُ د. عبدالله القيسي من نفس الجغرافيا المحسوبة على نفس المذهب، غير أنه كقارئ ضليع لفلسفة الغرب وما جاء به الإسلام كمنهج حياة، تجاوز عقبات الجهوية والتعصب المذهبي وعَبَرَ إلى عوالم الفِكر والإبداع، وكليهما مؤمنان بالله رفضا أن تُسخِّر هرطقات العصابة الدينية عقولهم لصالحها، وكفرا بما جاءت به من شركيات عبودية وقبور..
-->