لا يكاد يمر يوم من أيام الحرب في غزة إلا وتعلن فيه المقاومة الفلسطينية اصطياد الآليات الإسرائيلية المختلف من أسلحتها الثقيلة وخاصة دبابة الميركافا الأسطورية ذات الكلفة الباهظة، وفخر الصناعة الإسرائيلية، ناهيك عن اصطياد عشرات الجنود والضباط، مما يعني استنزافاً كبيراً للجيش الإسرائيلي واقتصاده.
أكثر من ألف ومائة آلية تم تدميرها أو إعطابها حتى اليوم، بحسب المقاومة، تعكس ما وراء ذلك الاصطياد من خسائر بشرية ومادية في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يعلن عن رقم حقيقي لخسائره البشرية وخاصة قوات النخبة التي صنعت الأسطورة الإسرائيلية أن جيشها لا يقهر.
سقطت الأسطورة، وتم تسويد وجه إسرائيل في كافة المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإنسانية محلياً وإقليمياً ودولياً.
تلك الصورة والمكانة التي حازتها إسرائيل وحاولت بناءها ونسجها من الخيال وبأموال طائلة جداً عبر مختلف الوسائل منذ أكثر من سبعين عاماً، كان أهمها استخدام اللوبي الصهيوني وجماعات الضغط في الدول العظمى والمنظمات الدولية، والتي وصلت حد التقديس والرعب، مما جعل الكثير في هذا العالم يجثو على ركبتيه؛ سواء كانت دول أو شعوب أو أحزاب أو جماعات أو أفراداً؛ تلك الصورة اليوم تتآكل، ويسود وجه إسرائيل الكالح يوماً بعد آخر، وتنتقل الصورة من التقديس إلى التدنيس.
برعت المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها في استدراج الجيش الإسرائيلي إلى أفخاخ وكمائن مسلحة، واستطاعت أن تكون هي الصياد بدلاً من الفريسة، رغم إمكانياتها البسيطة والمتواضعة لشعب أعزل ومحاصر منذ عشرات السنين.
إمكانيات تسليحية بسيطة محلية الصنع أحدثت فارقاً رهيباً في الصمود والاستمرار، وعلى الرغم من نقطة الضعف هذه في التسليح إلا أن هذه النقطة تحديداً تحولت من نقطة ضعف إلى أهم النقاط القوية للمقاومة؛ فلو أنها اعتمدت على استيراد السلاح، رغم الحصار المستمر والجائر، لكانت انتهت الأسلحة المستوردة منذ وقت طويل، ولكانت المقاومة اليوم قد سحقت وانتهت وقتل قاداتها وأفرادها وصار بحقهم محرقة هلوكوست جديدة كمحارق دير ياسين وغيرها.
الأسلحة المحلية الصنع أحدثت تغييراً كبيراً في المعادلة من حيث فاعليتها، وخاصة قذائف الياسين، والشواظ وغيرها، التي دمرت الأسطورة الإسرائيلية (الميركافا) واستنزفت العتاد والجيش الإسرائيلي ومرغت سمعته في الوحل وهو الجيش الذي لا يقهر، والذي تعود على صنع نصر خاطف من عدم المواجهة الحقيقية والمباشرة.
ضُربت الروح المعنوية للجيش الإسرائيلي، وانسحاب الجنود ورفضهم الخدمة في الجيش، وأرهقت الدولة اقتصادياً رغم جسور الإمدادات الجوية والبحرية الأمريكية والبريطانية للجيش الإسرائيل، ولم تعد الانتصارات الخاطفة اليوم حقيقة واقعية بل شيئاً زائفاً وأسطورة ماضية.
هذا التأثير المعنوي في الجيش الإسرائيلي سيكون له بالغ الأثر مستقبلاً، خاصة إذا أوقفت الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة بشروط المقاومة، والذي سيكون نصراً حاسماً للفلسطينيين يعطي الأمتين العربية والإسلامية أملاً في قرب تحقيق النصر وزوال إسرائيل واستعادة القدس. وفي المقابل ترتفع الروح المعنوية للمقاومة والشعوب العربية على السواء، مما جعل الداخل الشعبي الفلسطيني ينحاز للمقاومة، وبدأت أصوات تيار التطبيع تخفت شيئاً فشيئاً وصوت المقاومة والتحرير يعلو كل يوم.
لا شك أن كل هذه الخسائر المادية في الجيش الإسرائيلي، وما يترتب عنها من خسائر لوجيستية ومالية أخرى لا تحسب اليوم بمليارات الدولارات ربما تصل إلى 100 مليار دولار إذا حسبنا كلفة الدبابات والآليات المدرعة والجرافات والمصروفات والبورصة التي ضربت في الصميم، وتوقف الإنتاج والتصدير والاستيراد، ورفع أسعار المحروقات وكلفة التأمين على الشحن، وغيرها من المجالات التي تكون المصروفات باهظة، فلقد قيل: الحروب محرقة الأموال.
لم يكن الإرهاق ليقتصر فقط على الجيش الإسرائيلي، بل حتى لداعميه الأمريكان وبريطانيا، مما أظهر تململاً أمريكياً من إدارة الحرب لحكومة نتنياهو تسعى لتغييرها ووقف الحرب، مما أحدث شرخاً بين إدارة الرئيس الأمريكي بايدن وبين نتنياهو، كما أدى إلى خلاف واضح في صفوف مجلس الحرب والحكومة الإسرائيلية.
هي أطول حرب تخوضها إسرائيل منذ تأسيسها وحتى اليوم، لم تألف مثل الصمود الأسطوري الحاصل اليوم في غزة، مما أفقد الساسة والقادة الإسرائيليين صوابهم، ولأول مرة يعترفون أن هذه الحرب هي الأخطر على وجودهم على الإطلاق، ولذلك سعوا لتدمير غزة عن بكرة أبيها فوق رؤوس المواطنين لكي يحدثوا شرخاً وبلبلة بين المقاومة الحاضنة الشعبية، ويجبرون المقاومة على إيقاف القتال والإستسلام، وكذلك لإيجاد شرخ بين المقاومة وشعوب المنطقة التي ظهرت أصوات كثيرة فيها تحمل المقاومة المسؤولية بدل أن تُعلي من أصواتها وصرخاتها في وجه الظلم الصهيوني على الشعب الفلسطيني.
تحول هذا الدمار لمتارس وبيئة فاعلة تساعد المقاومة على التخفي وشن حرب العصابات لاصطياد الميركافا والدرون والنمر والجنود والضباط وبث الرعب في صفوف الجيش الإسرائيلي، مما جعل المنسحبين منهم يرقصون فرحاً أن خرجوا من شباك الاصطياد، وبدأت أصوات الداخل الإسرائيلي تعلو لإيقاف الحرب وحل الدولتين.
لم تشهد فلسطين موسماً للصيد السمين في تاريخها الحديث ضد الجيش الصهيوني كما هو حاصل اليوم، وفرض الخيار المقاوم على الأرض هو من سيرغم الساسة الإسرائيليين على المضي لحل الدولتين الذي ظل أمراً تماطل به إسرائيل عقوداً من الزمن رغم اتخاذه خياراً استراتيجياً لدى العرب كافة، إلا أنه لم يتم التقدم فيه شبراً واحداً على الأرض، وبدأت أسهمه تتصاعد من جديد اليوم بفعل الضغط المسلح في الميدان.
-->