لقد نبهنا مرارًا
الشرعية، ممثلةً عمليًا في مجلس القيادة الرئاسي وحكومته، لأن باقي المؤسسات شبه
معطّلة. وقلنا كثيرًا إن الشرعية، بكل مستوياتها، تتآكل كلما تراجعت عن دورها
الطبيعي في خدمة الناس، خصوصًا عند انقطاع الكهرباء، وغياب الأمن، وتلاشي مؤسسات دولة الجمهورية اليمنية النظامية.
تتآكل الشرعية كلما
انهارت العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، وكلما تقلصت الرواتب، وتراجعت
القدرة الشرائية للمواطن اليمني، الذي أصبح مكبّلًا في لقمة عيشه.
وتتآكل أيضًا كلما
تجاهلت السلطة مطالب النقابات العادلة، كالمعلمين والموظفين، الذين لم يعودوا يرون
أي معنى للراتب، ولا قيمة للمؤسسة.
وتتآكل حين تتراجع عن
إنفاذ الدستور، وتهمل تطبيق القانون، بل وتتراجع عن قرارات وإجراءات البنك المركزي
لصالح جماعة الحوثي الإرهابية.
تتآكل الشرعية حين اختطف
الحوثي أربع طائرات من الخطوط الجوية اليمنية في أواخر يونيو 2024، وبقي معها
1300 حاج عالقًا في جدة. حينها عقد مجلس القيادة
الرئاسي اجتماعًا استثنائيًا في 29 يونيو 2024، وصف فيه احتجاز الحوثيين للطائرات
بأنه "عملية إرهابية مكتملة الأركان"، وأعلن تشكيل خلية أزمة لمتابعة
هذا الملف. لكن الملف أُقفل، وبقيت الطائرات مع الحوثيين، لينقلوا بها قادتهم إلى
طهران أو بيروت، ويشاركوا في جنازة حسن نصر الله، أو يسيرون الركاب لحسابهم، أو يسافروا همز إلى الأردن ليجنوا
الفوائد، بينما الشرعية لا حسّ ولا خبر!
وحين أمر الكيان
الصهيوني بإخلاء مطار صنعاء قبل قصفه بما فبه، رفض الحوثي إجلاء الطائرات التي احترقت بالهجوم، لأنه
ببساطة لم يعُد يعنيه أمر الخطوط الجوية اليمنية؛ فقد أنشأ شركة طيران جديدة مع
سلطنة عُمان تحت اسم "الخطوط الجوية الهاشمية"!
فهل هذا تمهيدٌ لمرحلة
قادمة؟ يا شرعية...!
تتآكل الشرعية حين يطول
مقام مسؤوليها في الخارج أكثر من بقائهم في الداخل، وكأن الوطن لا يعني لهم شيئًا
سوى ملف في حقيبة سفر.
وتتآكل عندما تنشغل
القيادة بتقاسم المناصب والصراعات الهامشية، وتصمت عن العبث بالسيادة الوطنية،
وتتجاهل استهداف الأعيان المدنية.
وتتآكل عندما تكسب النخب
وتترك الشعب يتألم بصمت، دون حتى وعدٍ أو خطابٍ يواسيه.
وتتآكل حين تسكت عن
الاتفاقات الجانبية لبعض الدول مع الحوثيين في البحر الأحمر، على حساب مركزها
القانوني، ولا تحرك ساكنًا.
وتتآكل حين تصف سلطنة
عُمان الحوثيين بأنهم "سلطات صنعاء المعنية"، ويلتقي وكيل وزير الخارجية اليمنية
بنظرائه في عُمان، دون أن يصدر حتى خبر احتجاج.
وتتآكل الشرعية عندما
تظل على حالها ساكنة، لا تحقق سلامًا، ولا تسوية، ولا تحسم الانقلاب، ولا تستعيد
العاصمة صنعاء، ولا المؤسسات، ولا المعسكرات.
في ظل هذا التآكل، تخرج
النساء اليمنيات من رحم المعاناة كالفجر من الظلام، بشجاعتهن وتحديهن، بخطابهن
الجرئ ومطالبهن الواضحة، حوامل لقضاياهن بعيدًا عن المزايدات السياسية، واقفات في
وجه القمع والخذلان.
كانت المرأة اليمنية في
ميدان السبعين بصنعاء، بعد الثاني من ديسمبر 2017، بألف رجل، بل بألف مؤتمري، حين
اغتيل زعيمهم، الرئيس السابق علي عبد الله صالح، فتوارى رجال الحزب وخرجت النساء!
خرجن واعتُقِلن وواجهن
وصمدن، أكثر من الأحزاب، وأكثر من قبائل طوق صنعاء التي اعتادت أن تحكم بالهيبة
والصوت المرتفع.
تعاطف معهن الأحرار،
وارتفعت صورتهن فوق كل الهامات.
واليوم، يتكرر المشهد في
ساحة العروض بعدن...
عدن، المدينة التي تنزف
صمتًا، شهدت عصر اليوم تظاهرة نسائية حاشدة، انطلقت من شوارعها المنهكة بالتهميش،
احتجاجًا على تدهور الأوضاع المعيشية والخدمية، بعد أن بلغ الاحتقان ذروته من
انقطاعات الكهرباء، وانعدام المياه، وارتفاع الأسعار، وسوء الخدمات الصحية والتعليمية.
نساء عدن خرجن لأن الصمت
لم يعد مجديًا، ولأن الجوع لا يُهادَن، ولأن الكرامة لا تُؤجَّل.
خرجن يحملن مطالب واضحة
ورسالة صارخة:
لا للشرعية، لا
للانتقالي.
وقطعًا، ما دُمن يرفضن
الطرفين، فمن باب أولى أن يقول لسان حالهن: ولا للحوثي!
خرجن وقلوبهن تسبق
أقدامهن، في مشهد يختصر كل خيبات المرحلة.
يا ليتَهُن أضفنَ
"الحوثي" بصريح العبارة في شعارهن! لكان ذلك إعلانًا لميلاد مرحلة
جديدة، بوحدة نسائية تُحرج كل المكونات السياسية المتكلسة.
لكنها البداية...
والبدايات الحقيقية تولد
من رحم الألم.
إننا هنا نناشد الشرعية،
بل نُحذّرها:
عودي إلى دورك الوطني!
أنصتي لصرخات النساء!
خصّصي وقتًا وجدية
لمعالجة أسباب خروجهن، قبل أن يتآكل رصيدك الشعبي تمامًا، ويؤول إلى الصفر!
ختامًا...
لقد أثبتت المرأة
اليمنية أنها ليست فقط نصف المجتمع عدديًا، بل قلبه النابض وضميره الحي، حين خذلته
النخب، وغاب صوت الدولة، واستُهلكت الشرعية في صراعات المصالح والمناصب. فبينما
تتآكل الشرعية وتتلاشى هيبتها، تبرز النساء في اليمن بوصفهن آخر رمق للكرامة
الوطنية، وآخر شاهد على النبض الشعبي الرافض لكل أشكال الفساد والخذلان والعبث.
إن صرختهن ليست مجرد
لحظة غضب عابرة، بل مؤشر على بداية تحوّل عميق قد يعيد تشكيل المشهد السياسي
والاجتماعي، إذا ما أُحسن الإصغاء إليه. لذا، على الشرعية أن تدرك أن تجاهل هذه
الرسائل النسائية الجريئة لن يمرّ دون ثمن، فـ"النساء في اليمن هن شرعيةُ من
لا شرعيةَ له"، وهن بذلك يقُدن الطريق نحو التغيير الحقيقي!
-->