هناك تخادم بين أمريكا والحوثيين.. هذه حقيقة لا يجب إنكارها، وهذا التخادم ساعد الحوثيين على الصمود حتى اللحظة رغم كراهية الشعب اليمني لهم. الحوثي يقدم لأمريكا خدمات عظيمة لا يمكن الحصول عليها بأي وسيلة أخرى. فهو يسهل لها ابتزاز أغنى دول الشرق الأوسط ومركز العالم الإسلامي.. هذا المكسب وحده يجعل بعض الدول –ليس فقط أمريكا- تحرص على بقاء هذه العصابة في وضع معين بل تحرص على ذلك. لا يمكن لأي حركة أو جماعة في العالم أن تنجح في تقديم هذه الخدمات الفاخرة.
هذا التخادم لا يعني أن الطرفين ليس بينهما عداوة أو خلاف حول مصلحة معينة أو طريقة ما في التعامل أو جني ثمار هذه العملية أو تلك. ثمة عداوة بينهما، لكنها لا تتجاوز حدود معينة، وبطبيعة الحال الحوثي لا ينشط مستهدفا مصالح أمريكا كما يفعل تنظيم القاعدة مثلا، ولهذا وطوال ٢٠ عاما لم يشكّل الحوثي أي خطر على مصالح الولايات المتحدة لا في اليمن ولا في أي مكان آخر رغم قدرته على ذلك.
هذه الأيام تقول عصابة الحوثي بأنها تواجه أمريكا في البحر الأحمر، لكنها في ذات الوقت تشدد على أنها لا تستهدف إلا السفن التجارية وليس السفن الحربية وإن حدث وأعلنت استهداف أي سفينة أمريكية، فيكون على شكل إطلاق مقذوفات أو صواريخ تتعمد عدم إصابة أهدافها وهو ذات الأسلوب الذي أشار إليه الرئيس الأمريكي السابق ترامب عندما أوضح بأن النظام الإيراني أبلغه بأنه سيقوم بإطلاق بعض الصواريخ صوب قاعدة أمريكية -ردا على اغتيال القوات الأمريكية لقاسم سليماني- وأن هذه الصواريخ لن تصيب أهدافها، أي أنها للاستعراض أمام الشعب الإيراني..! وإن افترضنا استهدفت عصابة الحوثي مصالح أمريكية بشكل مباشر وأحدثت خسائر بشرية ومادية أو العكس، مع ذلك ترى الولايات المتحدة بأن بقاء الحوثيين أكثر فائدة لها من أي خسارة قد تتعرض لها نتيجة أي نشاط حوثي في المنطقة.. تماما كالتاجر الذي لديه استعداد للتنازل عن بعض ما يملكه في سبيل الحصول على مكسب أكبر. في المُقابل، يرى الحوثيون بأن أي عملية عسكرية أمريكية ضدهم مكسب كبير ولهذا يسعون لاستدعاء التدخل الأمريكي بكافة الطرق، وفي النهاية "الحجر من القاع والدم من رأس القبيلي"، أي أن الشعب اليمني فقط هو من سيدفع الثمن وهذه العصابة هي من ستجني الثمار في نهاية المطاف. كل طَرف يَغُضُّ الطّرف عن أي ممارسات عدائية في حقه مالم تتجاوز حدود معينة. ولهذا علقت أمريكا على "صرخة الموت" بلسان السفير الامريكي السابق في صنعاء جيرالد فايرستاين، بقوله إن شعار الصرخة الذي يردده أنصار جماعة الحوثي والمنادي بالموت لأمريكا "مجرد شعارات وستظل شعارات فقط ولا علاقة لها بالواقع" (مايو 2013). تماما كما علقت بعض الصحف الغربية على خطابات حسن نصر الله الشهر الماضي بقولها: "حسن نصر الله.. ينبح ولا يعض".
وبناء على ذلك.. نستطيع القول بأن الحوثيين ينبحون منذ أكثر من عشرين عاما لكنهم لا يعضون أمريكا أو إسرائيل. تقول الولايات المتحدة في بيان أخير لها بأن الحوثيين نفذوا العملية رقم 27 على سفن الشحن الدولي منذ 19 نوفمبر الماضي. نتحدث عن عشرات الصواريخ والطائرات المسيرة والزوارق المفخخة. لكن ما حصيلة هذه العمليات؟ صفر. لم يصب حتى فأر في سفينة أمريكية أو إسرائيلية..! إما أن الحوثيين لا يريدون استهداف أمريكا وإسرائيل وما يفعلونه مجرد استعراض لتحقيق أهدافهم السياسية والعسكرية في شبه الجزيرة العربية، أو مسيرات ومفخخات وصواريخ الحوثي "فشنك" ولا تنفجر إلا على أجساد اليمنيين.
لكن هل استفاد أهلنا في غزة من عمليات الحوثي بشكل مباشر؟ الإجابة بلا شك: لا.. لم تنعكس هذه العمليات على أهلنا إيجابيا أبدا.
هل هناك تنسيق بين الحوثيين وأمريكا؟ شخصيا لا أحب استخدام مصطلح "تنسيق"، بل يمكن القول كان هناك "تفاهم" بين الطرفين، هذا التفاهم عبر وسطاء مختلفين ليتم إبقاء حالة العداء في حدود معينة ليستفيد الجميع من هذه الحالة. وهذا ما جعل أمريكا وبريطانيا تستخدم كل ثقلها لإيقاف تحرير محافظة الحديدة التي تعتبر الرئة الأهم التي تمكن الحوثي من التنفس. من المهم الإشارة هنا إلى أن هذا التخادم ليس ناتجا عن تقاطع المصالح، بل تخادم مقصود ومدروس.
الحوثي يتعمد تقديم الخدمات للولايات المتحدة، ولهذا قدم نفسه للأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية منذ سنوات طويلة باعتباره المكون اليمني الذي يستطيع القضاء على تنظيم القاعدة في المنطقة كلها وليس اليمن وحسب. ولهذا –أيضا- وصف كل من يختلف معهم في اليمن ويريد القضاء عليهم بالدواعش ومن خلال استخدام هذا الوصف سوّق لنفسه عند كثير من الدول التي تحارب داعش على رأسها أمريكا لتغض الطرف عن جرائمه في اليمن.
عندما وقفت أمريكا-إلى جانب بريطانيا- بكامل ثقلها ضد تحرير الحديدة، ثم إلغاء تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية، قدمت بذلك خدمات ذهبية للحوثيين، بل كانت سببا في الإبقاء عليهم وإنقاذهم حرفيا.
واليوم ها هي تقدم لهم الخدمة الثانية والتي ستمد من عمرهم قليلا، وهي تنفيذ ضربات لبعض مواقع الحوثيين وهو الأمر الذي يسعى إليه الحوثيون منذ فترة طويلة لأن هذه الضربة-أولا- ستتسبب في قتل اليمنيين الأبرياء أولا ولن تضر الحوثيين كجماعة. ثانيا: ستدفع الكثير من اليمنيين إلى الالتفاف حول الحوثي، ثالثا: تصور الحوثي وكأنه فعلا يُقاتل أمريكا وبريطانيا دفاعا عن فلسطين، وبهذا تكون هذه العملية الأمريكية – البريطانية السطحية بمثابة تلميع للحوثي كما يتم تلميع الأحذية لتبدو جذابة..!
الخدمة التي قدمتها أمريكا للحوثي عندما صورته أمام العالم العربي والإسلامي بأنه يدافع عن فلسطين، مهمة جدا بالنسبة لهذه العصابة، بل من أهم ما يمكن أن تسعى إليه بالتنسيق مع الأذرع الإيرانية. أي تصوير الحوثي ورفاقه بأنهم يقاومون أمريكا وإسرائيل ويدافعون عن فلسطين بدعم من إيران، في الوقت الذي تصمت فيه كل الدول العربية والإسلامية. جماعة الحوثي قائمة أصلا على شعارات "تحرير القدس" و"مواجهة دول الاستكبار العالمي"، وبالرغم أنها لا تفعل شيئا لفلسطين، وتكتفي بالصراخ وإطلاق المفرقعات في الهواء، إلا أن تنفيذ عمليات أمريكية وبريطانية على مواقع يمنية تصورالحوثيين كجماعة لا تقهر. ومن أجل الحصول على هذه الخدمة الفاخرة سيفعل الحوثيون أي شيء وليس فقط إطلاق صواريخ ومسيرات وزوارق مفخخة إلى جانب السفن الأمريكية والتجارية في البحر الأحمر.
يقول البعض بأن الحوثي على ما يبدو "زود العيار حبتين" وخرج عن المحدد كما تخرج أصابع القدم من الجوارب بعد ثقبها، ويتم الضغط عليه ليضم أصابعه ويعيدها من جديد إلى داخل الجوارب، لكن هذا لا يمنع حرص الطرفين على تحقيق مكاسب من خلال ما يحدث في البحر الأحمر. أمريكا تحجز مقعدها في البحر الأحمر قبل وصول روسيا والصين، كما أنها تقدم نفسها للعالم بأنها تحمي التجارة الدولية في هذا الموقع الاستراتيجي، وهذا ما يجعل الرئيس بايدن يحصل هل ورقة إضافية يمكن استخدامها في حملته الانتخابية. وبلا شك لن يخرج الحوثي بخفي حنين من هذه العملية، فالمواجهة مع أمريكا في البحر الأحمر تقدمه لليمنيين والسذج في بعض الدول العربية- بأنه حامي الديار اليمنية والمدافع عن فلسطين والذي وقف في وجه أمريكا من أجل غزة بالرغم أن غزة لن تستفيد من هذا كله. عن الموقف الأممي
بالأمس اعتمد مجلس الأمن الدولي القرار 2722 بتأييد 11 عضوا وامتناع أربعة عن التصويت. يدين القرار الهجمات التي شنها الحوثيون على السفن التجارية وسفن النقل في البحر الأحمر وطالب بالوقف الفوري لجميع هذه الهجمات.
ابتهج البعض بهذا القرار، لكنه في الحقيقة غير مجدي في نظر اليمنيين، فالسنوات الماضية علمتهم أن لا يراهنوا على أي تحالفات دولية أو قرارات أممية.. أبدا. اليمنيون لن يقفوا إلى جانب أي تحالف دولي ضد الحوثيين، ولن يصفقوا لأي ضربات أمريكية بريطانية داخل اليمن. هذه العمليات تفاقم معاناة اليمنيين وتزيد الحوثيين قوة. ما نحتاجه هو تصنيف هذه العصابة العنصرية كجماعة إرهابية، وعدم إعاقة الجيش والشعب اليمني أو منعه من تحرير بقية الأراضي اليمنية والحديدة في الوقت الحالي على الأقل.
-->