جنوب أفريقيا وفلسطين.. مقاربات ومفارقات

عبدالملك المخلافي
الخميس ، ١٤ ديسمبر ٢٠٢٣ الساعة ١٠:٢٠ مساءً

تقدّمت جنوب أفريقيا مع دول أخرى بشكوى ضد الكيان الصهيوني إلى المحكمة الجنائية الدولية لارتكابه جرائم حرب وإبادة جماعية، وقال رئيسها ماتاميلا رامافوزا، إنّ بلاده قدّمت الشكوى من أجل التحقيق في "جرائم حرب" ارتكبتها "إسرائيل" في قطاع غزّة. رامافوزا أكد أنّ "إسرائيل" ترتكب جرائم حرب وعمليات إبادة جماعية، بالإضافة لتدمير مستشفيات وبنى تحتية عامة، ووصفت وزيرة خارجية بلاده ناليدي باندرو الوضع في غزّة أنه "أسوأ بكثير" من الوضع الذي عاشته بلادها تحت الفصل العنصري. أما مجلس النواب الجنوب أفريقي فقد اتخذ عددًا من القرارات ردًا على العدوان الصهيوني على غزّة، منها؛ إغلاق السفارة الصهيونية لدى بريتوريا وطرد السفير "الإسرائيلي"، مما اضطر الكيان الصهيوني لسحب سفيره قبل أن يتم طرده.

هذا الموقف من جنوب أفريقيا ليس غريبًا من دولة عانت من العنصرية واستطاعت بكفاح شعبها وإسناد أشقائها الأفارقة وتضامن دول العالم أن تنتصر على النظام العنصري بين عامي 1990-1993 لتقيم نظامًا ديمقراطيًا وتجري انتخابات ديمقراطية عام 1994 يحق لكل السكان المشاركة فيها دون تمييز بديلًا من نظام الفصل العنصري الذي عُرف بـ"أبارتايد"، وهو وإن كان مصطلحًا خاصًا بنظام الفصل في جنوب أفريقيا مستمدًا من الأفريقانية فإنّ هذه التسمية أصبحت مصطلحًا للفصل والتمييز العنصري بشكل عام بما في ذلك في فلسطين حسب التعريف الدولي، حيث قالت منظمة العفو الدولية في تقريرها عن الفصل العنصري الذي تمارسه "إسرائيل" في فلسطين إنّ "المجتمع الدولي اعتمد هذا المصطلح لإدانة وتجريم مثل هذه الأنظمة والممارسات العنصرية أينما تقع في العالم". ما يحدث في فلسطين يستدعي دائمًا "الأبارتايد" ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهناك مقاربات كثيرة يمكن أن نلحظها حول "الأبارتايد" في كل من جنوب أفريقيا وفلسطين من حيث البداية والمضمون والمسار، يمكن أن تكون محلّ تناولنا في مقال لاحق، ولكن هناك مفارقات كثيرة في الحل المُنفّذ في جنوب أفريقيا مقابل الحل المطروح في فلسطين، بما في ذلك فكرة "حل الدولتين" الذي يقدّم حلًا عنصريًا عوضًا عن حل ديمقراطي.

كما أنّ المفارقة تبدو بوضوح في الموقف الرسمي العربي وانعكاساته بالنسبة لموقف دول العالم، قياسًا بالموقف الأفريقي الذي استطاع أن يعزل النظام العنصري ويجبر العالم على عزله حتى أصيب بالاختناق واضطر القائمين عليه إلى الاستسلام والقبول بالحل الديمقراطي، في الوقت الذي خاض العرب في البداية عديد الحروب مع الكيان الصهيوني من أجل فلسطين وانتهى نضالهم إلى التطبيع مع النظام الصهيوني العنصري بدلًا من عزله والضغط على دول العالم لعزله وخنقه حتى الاستسلام واستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

من هنا، وفي ظل هذه الأوضاع العربية والدولية الرسمية تجاه القضية الفلسطينية والنظام الصهيوني العنصري في فلسطين المحتلة يأتي حديثنا عن موقف دولة جنوب أفريقيا، باعتباره الموقف الأبرز الذي لفت أنظار العرب والعالم، وإذا كانت في موقفها هذا تستند إلى تجربتها ومعاناتها ومبادئها، مما يجعلها وفية لنضالات شعبها ولإرث "الرجل العظيم المبجل" أو "ماديبا" بلغة عشيرته، نلسون مانديلا، وهي في الوقت نفسه تعبّر عن روح تضامن إنساني مع قضية العرب المركزية "فلسطين". العرب الذين دعموا نضالات جنوب أفريقيا ونضال شعوب ودول القارة عامة في الخمسينيات والستينيات، وخصوصًا مصر الناصرية والجزائر بعد استقلالها عام 1962، ولعل هذا ما جعل مانديلا يضع مصر والجزائر في مقدّمة الدول التي زارها بعد إطلاق سراحه وجعل ضريح عبد الناصر في أولويات برنامج زيارته، حيث خاطبه من على ضريحه قائلًا: "كنتُ هناك في طرف القارة أشب على أطرف أصابعي حتى تراني، عفوًا لقد تأخّر موعدنا معكم 25 عامًا".

حيث كان من المفترض أن يلتقي مانديلا الزعيم "ناصر" في القاهرة، لكن تعذّر ذلك بعد إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن في بلاده وخروجه من السجن بعد وفاة الزعيم المصري بعشرين عامًا.

الدعم العربي لنضالات أفريقيا ردّته القارة السمراء المحرّرة للعرب بدعم قضاياهم وفي مقدّمتها القضية المركزية للعرب "قضية فلسطين"، إلى الحد الذي ألغت معظم الدول الأفريقية اعترافها بالكيان الصهيوني وقطعت علاقتها معه في حرب 1973 حتى كادت أن تخلو من الوجود الصهيوني آنذاك، قبل أن يعود الصهاينة إلى القارة مجددًا ويصبحون هم من يتحكّمون بها وبعلاقتها بالعرب بفعل الانحراف الذي حدث في السياسة العربية والانقلاب على الثوابت وعلي التضامن العربي وحالة التمزق والضعف الذي أصاب الدول العربية والنظام الرسمي العربي بعد انقلاب السادات على خط عبد الناصر وزيارته "كنيست" العدو في أرض فلسطين المحتلة وتوقيع اتفاقية "كامب ديفيد"، ثم بدء مرحلة من التمزق بإخراج مصر - أكبر وأهم دولة عربية - من النظام الرسمي العربي ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس. ولأنّ مصر هي من قادة الحضور العربي في العالم بما في ذلك أفريقيا قبل أن يضعف هذا النفوذ ويحل محله نفوذ صهيوني وصل إلى حد التآمر على مصر في مصدر حياتها وهي مياه النيل - قبل أن تستعيد بعضًا من دورها بعد 30 يونيو ومجيء الرئيس السيسي - فيمكن الاستشهاد مجددًا بالعظيم المبجل مانديلا لفهم ما حدث، إذ قال بعدما أُعلن فوز بلاده بحق تنظيم أول مونديال لكأس العالم في القارة السمراء على حساب مصر، وقد كان حاضرًا في إجراء القرعة في سويسرا "لو كانت مصر عبد الناصر باقية لما كنا تجرّأنا على منافستها، بل كانت جنوب أفريقيا ستكون أول الداعين والداعمين للقاهرة".

والشاهد، أنّ النظام الرسمي العربي واصل تمزّقه وضعفه وتخليه عن قضاياه رغم عودة مصر إلى النظام الرسمي العربي وعودة الجامعة العربية إلى القاهرة، فقد بدأت مرحلة الهرولة نحو الكيان الصهيوني، خاصة بعد أن عقد ما يمكن أن نطلق عليه النظام الرسمي الفلسطيني كجزء من النظام الرسمي العربي اتفاقية "أوسلو" التي أعفت الأنظمة العربية من مسؤوليتها القانونية والأخلاقية تجاه فلسطين والشعب الفلسطيني، بل وتحوّل بعضها إلى دور الوسيط بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية.

والحاصل أنّ هذا التراجع أوصل بعد ذلك إلى مرحلة الهرولة تجاه العدو الصهيوني لعقد الاتفاقات معه وإلى مرحلة "التطبيع" التي كانت مفاعيلها مرشّحة للاتساع بل والامتداد نحو دول عربية ومحورية جديدة لولا "طوفان الأقصى" والعدوان الصهيوني على غزّة الذي أوقف ذلك.

وهذه السلسلة من التراجع والضعف الرسمي العربي هي ما جعلت حجم التضامن الرسمي الفعّال من دول العالم تجاه العدوان الصهيوني على غزّة، أقل بكثير مما كان في مراحل سابقة.

الضعف العربي لا يوحي بالقوة ولا بالمصلحة ما يستوجب التضامن بفعلهما أو بفعل إحداهما، ونستثني من ذلك موقف الشعوب بما في ذلك الشعوب الغربية وشعوب دول العدوان، إذ برغم الموقف الرسمي وربما بسببه وبسبب حجم الإجرام الصهيوني من جهة والصمود الفلسطيني من جهة أخرى ارتفع التضامن الإنساني إلى درجة غير مسبوقة بل وارتفع الوعي بالقضية الفلسطينية ما يبشّر بدخول القضية الفلسطينية مرحلة جديدة يمكن أن تنعكس بشكل إيجابي على أن تغيّر الموقف الرسمي العربي، بعد ما أصاب الضمير الإنساني من أزمة أرقت شعوب العالم بفعل جرائم الإبادة الجماعية وسياسة التطهير العرقي والتهجير والجرائم ضد الإنسانية ومناقضة كل مبادئ حقوق الإنسان والتمدّن وحتى التزامات القانون الدولي الإنساني فترة الحروب التي وصلت إليها البشرية أو ادعتها الدول الغربية الداعمة للعدوان، رغم أنّ ما يحدث ليس حربًا بين دولتين وإنما عدوان غاشم من كيان محتل ضد شعب أعزل تحت الاحتلال.

الخلاصة؛ خسر العرب أنفسهم وقضاياهم فخسروا العالم، ولم يعد التضامن الرسمي لدول العالم مع العرب في قضيتهم المركزية فلسطين كما كان لأنّ العرب أنفسهم لم يعودوا موحّدين تجاه قضيتهم أو متضامنين مع شعب فلسطين شقيقهم الأعزل تحت الاحتلال، وليس مستغربًا أن لا يجد العرب موقفًا عالميًا رسميًا داعمًا لهم ولقضاياهم بشكل فاعل بفعل التضامن أو بفعل المصلحة إذا استثنينا موقف الشعوب والموقف الإنساني من بعض الدول التي تتمتّع بقيم إنسانية ومبادئ مفتقدة في هذا الزمان -زمن المصالح - مثل جنوب أفريقيا وبعض بلدان أمريكا اللاتينية والتي تتمتع دولها بمبادئ عالية وعانت من العنصرية أو الاستعمار والتعالي الأمريكي والغربي وتدرك معنى مواقف التضامن والإنسانية في مواجهة آخر وأبشع صور العنصرية والاستعمار ممثّلة بالكيان الصهيوني في فلسطين.

ولن يجد العرب التضامن المنشود وتغيّر الموقف الرسمي لدول العالم بل للدول الداعمة للعدوان إلا إذا تغيّر الموقف الرسمي العربي وتجاوز الضعف والتمزّق والاستسلام وانتقل إلى مرحلة التضامن والتوحّد في مواجهة العدو وتجاه القضية، فحينها فقط سيتوحّد الموقف الإنساني للشعوب والموقف الرسمي لدول العالم مع الموقف العربي رسميًا وشعبيًا، وفي ذلك نهاية الكيان الصهيوني العنصري واستعادة الحقوق المشروعة لشعب فلسطين العربي وسيادة السلام والاستقرار في المنطقة وانتصار الإنسانية ضد العنصرية والإبادة الجماعية.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي