الخيانة: تحديات الشرف وإغراءات العلف

د. محمد شداد
الجمعة ، ٢٦ يناير ٢٠٢٤ الساعة ٠١:١٣ مساءً

حب الوطن غريزي، والدفاع عنه واجب على كل قادر، سواء بالكلمة، بالحرف، بالموقف، أو حتى الطلقة. الانتماء الحقيقي للوطن ليس مجرد شعارات، بل هو شعور عميق وإلزامي. يقسم المحلل السياسي العماني، علي المعشني، الوطنيين في العالم العربي إلى فئتين: أصحاب الشرف وأصحاب العلف. يلفت المعشني الانتباه إلى أن أصحاب العلف يفوقون عدداً أصحاب الشرف بأضعاف. أصحاب الشرف، كما يصفهم، هم حماة القضايا الوطنية، الذين يدفعون نحو عدم التنازل عن كرامتهم وشرف قضاياهم العربية والإسلامية. 

إذن، أصحاب العلف هم أولئك الذين يضيق اهتمامهم بشهواتهم الأساسية، متجردين من كل قيمة إنسانية، بما في ذلك شرف العروبة والدين. لقد شهدت الساحة العربية آلافاً من هؤلاء الأفراد، الذين وقفوا بوضوح وصفاقة ضد القضية الفلسطينية. هؤلاء يميلون لدعم الكيان الغاصب، معارضين لحركة المقاومة الفلسطينية حماس، لا لشيء إلا لأنها حركة ذات مرجعية إسلامية.

لم يؤخذ في الاعتبار أن حركة المقاومة الفلسطينية، مثل أي حركة تحررية عبر التاريخ، رفعت شعار التحرر من الظلم والتفرقة العنصرية والغُبن. هم أصحاب شرف، حملوا على عواتقهم القضية الفلسطينية بكل ما أوتوا من قوة، ودافعوا عن كرامة وأرض الأمة، التي كادت أن تسقط في هوة التطبيع. يتوجب على أصحاب العلف إيقاظ الروح العربية الإنسانية في دواخلهم، وفتح أعينهم على حقيقة انكسار الهيبة الصهيونية وسقوط أسطورة جيشها الذي لا يُقهر. أمام القضية الفلسطينية، تتبدى الحقائق، فتنقسم الآراء بين مصدق ومكذب، مناصر ومعاد. القضية كشفت الحُجُب، أسقطت الأقنعة، وأذابت المساحيق، الأمر الذي أدى إلى تعرية الكثيرين وانكماش وجوههم أمام أسرهم ومن يعولون.

أصبحت القضية الفلسطينية واضحة في عيون العالم: لا يوجد مستحيل أمام عزيمة الشعوب وإرادة أصحاب الشرف، خاصةً إذا ما صدقت مع الله نواياهم وأخلصوا للقضية. ولو كان العدو إسرائيل وداعميها من الغرب أجمعهم، علّمت المقاومة الفلسطينية العالم دروسًا قيِّمة عن الحرية والاستقلال الذاتي.  وعلى إثر الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل والمعارض للمقاومة، أدلى أحد الساسة الأمريكيين بتصريح مؤثر، مشيرًا إلى أن النفوذ الصهيوني قد سيطر على سياسات بلاده. هذا الاعتراف فتح عيون الكثيرين على حقيقة الاستعمار الداخلي.

أدرك المقهورون في شتى أنحاء العالم أن الحرية لها أبواب يمكن فتحها إذا ما تم الطرق عليها بقوة دون كلل. حتى في البلدان العربية، التي فُتحت فيها أبواب للمعابد والكنائس والمزارات لجميع الأديان والأجناس، فيما أصحاب القضايا الإسلامية والعربية يواجهون تحديات جمة ويُصنفون كأعداء.

كُتاب، ساسة، ومحللون، وصلت بهم الجرأة إلى حد المجاهرة بخطيئة الوقوف إلى جانب العدو التاريخي للأمة، مشاركين في احتلال أرض فلسطين وتشريد ملايين من سكانها، ومصادرة أراضيهم وممتلكاتهم، بتواطؤ سافر مع المحتل سواء علنًا أو في الخفاء. إن المجاهرة بالمعاصي تعد خرقًا صارخًا للتعاليم الدينية التي تحث على ستر الأخطاء والتوبة. ومن يغترف من حوايا العلف، يغدو خائنًا، يبيع الشرف مقابل مصالحه الضيقة.

ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلُّ أُمَّتي مُعافًى إلا المجاهرين ، و إنَّ من المجاهرة أن يعملَ الرجلُ بالليلِ عملًا ثم يُصبِحُ و قد ستره اللهُ تعالى فيقولُ: عملتُ البارحةَ كذا و كذا ، و قد بات يسترُه بسترِ الله ، وأصبِحُ يكشفُ سِترَ اللهِ عنه". يشير هذا الحديث إلى أن الإفصاح عن الأخطاء التي سترها الله علامة على المجاهرة بالخطيئة. أصحاب العلف، الذين لم يكتفوا بالستر الذي وهبهم الله، جاهروا بأفعالهم المشينة علناً عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية. يقودنا هذا للتساؤل: ما نسبة الذين يحافظون على صحة أمتهم بالامتناع عن المجاهرة بالخطأ، مقابل أولئك الذين يُجاهرون بمواقفهم المعادية للقضية الفلسطينية؟ هذه القضية التي تجاوزت كونها مجرد قضية عربية أو إسلامية لتصبح قضية إنسانية شاملة.

جوهر المسألة والنقطة الأساسية هنا تتعلق باتجاه الأمة في تعاملها مع قضاياها المصيرية، وكيفية حماية أمنها وسلامة أوطانها. نتساءل عن مدى تقارب بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني، وصولًا إلى فتح أبوابهم لاستثماراته، مما يجعل قراراتهم السياسية والاقتصادية تحت تأثير هذا التقارب. هذا التأثير لن يقتصر على الدول الصغيرة في الخليج، بل كان قد امتد وابتلع قوى عالمية كالولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا وألمانيا، التي أصبحت تحت نفوذ المصالح الصهيونية فما بال الدول الصحراوية الهشة.

تأتي اليابان كمثال على التأثُر بالسياسة الأمريكية، حيث واجهت الانتقاد من بعض الدول العربية بسبب دعمها للموقف الأمريكي المعادي للقضية الفلسطينية وأهل غزة. في ردها، أشارت اليابان إلى محاولاتها المتكررة لفهم موقف الدول العربية تجاه قضيتهم، ولكن دون جدوى، مشيرة إلى أن أصحاب العلف في تلك الدول ناموا عن قضيتهم. وهكذا، وجدت اليابان نفسها في موقف صعب، واقفة وحيدة في الجانب الشرقي من العالم، مقيدة بقيود تاريخها المرتبط بالحرب العالمية الثانية وعلاقاتها الدولية.

تصدح عواصم العالم بأصوات أصحاب الشرف الداعمة لفلسطين، مرددين شعار 'الحرية لفلسطين'. هؤلاء المؤيدون ليسوا عربًا ولا مسلمين، وليسوا مدفوعين بمصالح ذاتية؛ بل ينضمون للنضال ضد القهر، مانحين صوتهم للحرية. يتناقض هذا الدعم مع الواقع في كثير من الدول العربية، حيث الصمت يخيم على العديد من الجماهير. وأود التوضيح هنا أنني لا أشير بـ'أصحاب العلف' إلى الأفراد الذين هم تحت القهر أو الخوف من العقوبة، بل إلى الذين يجاهرون بمعارضتهم ويشككون في نوايا المقاومة الفلسطينية، خاصة حماس، بسبب توجهها الإسلامي.

ولو لم تكن حماس على هذا القدر من الشرف والصدق، لما حققت ما حققته من مراتب عالية لا يصل إليها إلا من هم على درجة عالية من النزاهة والوطنية والشرف. لم تحقق إنجازاتها حتى الجيوش القوية في حروبها ضد إسرائيل.

وفي سياق متصل، تبرز جنوب أفريقيا كمثال للدول التي تنتصر للقضايا الإنسانية، حيث عرضت أمام محكمة العدل الدولية الجرائم ضد الإنسانية والتمييز العنصري الذي يمارسه الكيان الصهيوني. هذا العرض يهدف إلى فضح هذه الجرائم أمام العالم والمطالبة بمحاسبة المسؤولين عنها. أصحاب شرف!

تجنب الإساءة إلى شرف المقاومة وصدقها، والانسحاب من سيرك تدنيس قضايا الأوطان العادلة، يُعد واجبًا قوميًا وإنسانيًا ودينيًا. يتوجب على من أخطأ في هذا الشأن أن يلجأ لستر الله ويتوب إليه، وفي حال استمرَّ أحدهم في الخطأ دون توبة، فمن الضروري أن تتخذ الأمة موقفًا حازمًا ضد التفريط في مبادئ الشرف.

 فمن يتجرأ على خيانة قضية عادلة بحجم القضية الفلسطينية وبيعها، سيخون بلده ولن يدعمها ولن يضحي في سبيل قضاياه الوطنية أثناء تعرضها للمخاطر، سيكون بلا شك أول من يتخلى عن وطنه؛ لأن الأوطان في نظرهم لا تعدو كونها مجرد أراضٍ للعيش والاستهلاك وقُراً واسعة للعيش يفتقرون إلى معاني الكرامة والشرف.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي