الثورات المغدورة: نظرة في التحولات إلى الاستبداد

د. محمد شداد
الأحد ، ٢١ يناير ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٥٥ مساءً

غالبًا ما يسقط قادة الثورات في مصيدة تقليد الأساليب القهرية التي مارسها ضدهم الحكام والمستعمرون. يعيدون تشكيل نفس الأفكار التي عانوها، في ظل حقب الحكم الاستبدادي تحولات خطيرة بُنيت عليهم الآمال، وإذا بهم بعد التخلص من الخُلَّص منهم تتحول النسخ الثورية المضروبة إلى نسخ متكررة من أولئك الذين قاوموهم. ينكرون حقيقة إمكانية التحرر الحقيقي والتسليم بأهمية الحكم المدني بعد الثورة ويستخدمون في الدعاية المفرطة للإقناع والقهر والتسلط على غرار ما فعله الاستعمار أو الحاكم المستبد.. 

 

تراجيديا عاشها الشعب اليمني عقوداً طويلة تحت نير الكهنوت الإمامي والاستعمار البريطاني ودفع اثماناً باهظة للتخلص من كليهما، ثم انتظر طويلاً على أمل التغيير وتحسن الأوضاع. كانت أحلام اليمنيين معلقة على نجود الثورة التي بزغت في سماء 26 سبتمبر 14 من اكتوبر، ولكن ومع مرور الزمن، تبددت تلك الأحلام. وجد اليمنيون أنفسهم وسط حقيقة مشبعة بالمرارة، بعد تحول المسار بعد التخلص من الثوار الذين اصطفاهم الله لها، إلى ظلالٍ لأولئك الذين قاوموهم إبان الثورات. 

 

تطلع اليمنيون إلى فجر جديد، إلى عصر حيث العدالة والمساواة هي الأصل، وليست مجرد شعارات لا تحاكي الواقع المرير. وسرعان ما ما اصطدم الشعب بالواقع المؤلم؛ أنصاف الثوار أصبحوا حكام اليوم، استعادوا تدوير نفس أساليب القمع التي قامت الثورة ضدها. هذا التحول الصادم في المواقف والسلوكيات، لم يعد مجرد حالة فريدة في اليمن، بل صار نموذجًا متكررًا يعكس تحديات الثورات ومآلاتها.

القارئ لتاريخ الثورات العربية، التي قادها وطنيون شجعان عشقوا الحرية والاستقلال، يجد أنهم هم من تولوا مقاليد السلطة بعد نجاح الثورات. ولكن و رغم إخلاصهم، إلا أن قدراتهم لم تكن دائماً كافية لتأهيلهم للحكم الرشيد إلا النادر منهم، إذ أن إدارة الدولة تتطلب مهارات وتخصصات مختلفة تمامًا عن مهارات المعركة. ولذلك شهدت غالبية الدول الجمهورية نكسات وخيبات أمل متتالية.

 

تسليم زمام الحكم للمدنيين ذوي التأهيل الناضح والنزاهة والشرف، كي تبني الوطن وتحقق طموحات الجماهير. لأن الخبرة السياسية والاقتصادية والإدارية التي يتمتع بها بعض هؤلاء تمثل عادةً عنصراً أساسياً في الظروف العادية وفي بناء الدولة.

يجب على كل الثوار لاحقاً كقادة حروب وطنيون أن يحموا ما حققته ثورتهم وأن يحافظوا على النظام العام بفروعه الأربعة، لضمان ألا يفرط ضعفاء النفوس بمكتسبات الثورة، لعدم اتصالهم بالثورة ميدانيًا ولم يذوقوا مرارة الحروب، وقد لا يعملون للتضحيات التي بُذلت دماءً وأرواح، أيام وليالي كانت كالجحيم عاشها الثوار في طريق الإستقلال أي اعتبار..

 

 في كتابه تعليم المقهورين يؤكد المعلم البرازيلي "باولو فريري" أن الأدوات الفعالة في عملية تحرير العقل المحتل أو المختل هي التربية الوطنية والدينية المقصودة عن طريق المدرسة أو عن طريق الأسرة والمجتمع، لأنها تعمل على "أنسنة الإنسان" وإعادة تأهيل الفرد وبالتالي إقامة علاقات حوارية مثمرة بين قياداة الدولة من جانب ومضطهدي المجتمع من جانب آخر. فالتعليم عند فريري قد يكون إما للتطويع والقهر والعبودية، أو لتحرير العقل وكسر العقد النفسية للذين استمرأوا العبودية والقهر.

 

 ويضيف الشرقاوي في كتابه "وتلك الأيام، أن "ثمة أصناماً في نفوس الناس لا يكسرها إلا معول التربية والقانون العادل" وكأنا أمام ضرورة إسقاط أصنام الاستعلاء والكبر السلالية ومفهوم أنا خيراً منه خلقتني من نار وخلقته من طين..  

 

وهذا ما كان يجب أن تخلُص إليه الأنظمة العربية الشمولية عسكرية كانت أم مدنية، وهو تحرير العقل بدلاً من تكرار منظومة القهر التي انتهجها الاستعمار والحاكم السلالي الغشوم، وتجهيل الناس وإثارة الفتن الطائفية والمذهبية ومن ثم مصادرة العقول التي على إثرها يساق الناس إلى المحارق دون وعي ..

 

لخص الثائر الهندي المهاتما غاندي أدوات الاحتلال البريطاني لبلاده فقال " كلما اتحد الشعب الهندي ضد الاحتلال ذبح بقرة وألقاها على طريق الهندوس ويلقي بالقمائم على طريق المسلمين كي ينشغلوا بصراعاتهم الطائفية ويتركوا الغازي يلهو ويعبث بخيرات الهنود.. 

 

وفي ذات السياق رأى السفير البريطاني أثناء احتلالهم للهند شاباً متعلماً يركل بقرة تعيق الطريق، نزل من على سيارته و سجد للبقرة وأغتسل ببولها حتى سجد معه الناس وركلوا الشاب المستنير. استغرب القنصل الذي كان بجواره و سأله عن ما إذا كان فعل ذلك عن إيمان حقيقي؟ فرد السفير: لا ولكن إذا مرت ركلة البقرة من الشاب المستنير سيركلنا المجتمع الهندي إلى محيطه بعد أن يستنير ولذا فالجهل أمضى سلاح للسيطرة على المجتمعات..

 

  خدع الأمريكان المقهورين من شعب العراق. احتلوا بلادهم وعمدوا إلى تذكية الروح الطائفية وتغذيتها بصنوف العرقية والعنصرية، اشتغل بينهم على قاعدته المشهورة "فرق تسود"! هدم الدولة وسعى لتمكين طائفة حاقدة على حساب طوائف وفئات أخرى، مارست بحق الشعب ما مورس ضدها سلفاً، خلقت واقعاً جديداً سهَّل على المحتل الامريكي الإمساك بتلابيبهم وسوقهم حيث يشاء. وسهَّلت تدخل إيران عن طريق تفجير المجتمع العراقي وخلق واقعاً مزرياً كي يوجد له ولخدنه الإيراني موطئ قدم، ونافذة للتدخل في شؤون المنطقة متى ما أراد...

 

 و كما فعلت في العراق، كررت أمريكا ذات السيناريو في اليمن. وقفت بشدة مع الميليشيات الطائفية. مكنت توحشها الايديولوجي على حساب باقي مذاهب وأطياف الشعب اليمني وأحزابه في الشمال. أفقرت المجتمع وأثارت المناطقية والجهوية عن طريق وكلائها في الجنوب لذات الغاية ونفس الهدف..

 

قالها وزير الدفاع الأمريكي "روبرت مكنمارا" عام 1967م في مؤتمر لدول حلف الناتو "مهمتنا هي إثارة الجهل والفقر والحروب" في دول العالم الثالث حتى لا تستقر وتخرج عن طوق التبعية وتستقل بقرارها السياسي وبمواردها الاقتصادية.. 

 

وكأن مكنمارا أصبح مستشارًا لدى الميلشيات الحوثية. نصح باشاعة الفقر عن طريق السيطرة على الإقتصاد وتعزيز الجهل وضرب التعليم عن طريق هدم مؤسساته التعليمية معاهد، مدارس جامعات، وسحق نفسيات رُسُل التعليم باستلاب مستحقاتهم وتحقيرهم في أوساط المجتمع لإجهاض العملية التعليمية وإعادة اليمن إلى ما قبل التاريخ ..

 

تبقى كلمات تشي جيفارا في هذا السياق حيّةً ومُلهمةَ: "الثورات يصنعها الشرفاء ويقودها الشجعان، ثم يسطو عليها الجبناء". ولعلي اضيف إليها: "ثم يأتي المستعمر السري حسب تعبير البردوني ليهدم ما تبقى منها"! ولذلك ينبغي ان تُشكل هذه الكلمات تذكيرًا قويًا بأن دروس التاريخ يجب ألا تُهمل، وأن بناء مستقبل يقوم على تجاوز أخطاء الماضي وعلى بناء أسس العدل والمساواة والحرية الحقيقية مع الحذر من تكرار دوامة الأخطاء التي سبق أن وقع بها الناس..

الحجر الصحفي في زمن الحوثي