المعرفة تبني..والجهل يهدم..

د. محمد شداد
الاربعاء ، ١٧ يناير ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٣٦ مساءً

لم يكن بناء الدولة الوطنية بمفهومها الحديث من هواجس اشتغال أصحاب الزوامل الحربية التي تطلقها في كل فراغ، لأنهم أسسو لثقافة الحرب التي مآلاتها حتماً الموت وأنواع الدمار، عادة وعند الشعوب المتقدمة يعاد تأهيل الشعوب بعد الحروب، كي يعود الناس إلى طبائعهم المدنية السلمية وإلى فطرتهم البشرية السليمة..

 

غير أنا في حالة حروب دائمة، ولا وقت لدينا لإعادة تأهيل البشر! تطرقت في بحثي للدكتوراة إلى ظاهرة كانت الأعقد في تاريخ اليمن ألا وهي ظاهرة الحرب، كان السؤال لماذا كانت ولا زالت اليمن ساحة تاريخية للحروب والصراع السياسي والعنف السلالي الطائفي؟ ما إن تخرج من حرب حتى تدخل بأخرى..

 

الأطماع السياسية والسلطوية والسلوك الانتهازي لعشاق الكراسي والدعوات الخرافية ، كانت ولا تزال سببًا للصراع العنيف، كانت أداتهم الحرب يسلكوها طريقًا مستدام، وإن استعانوا بشياطين الجن والإنس لا يهُم، المهم تحقيق الغاية حتى لو كانت وسيلتها هلاك كل الشعب وحتى لو ألقيَّ به جملة في البحر..

 

جحافل أجناد الطغاة لا تبني بل تقتل وتهدم وتسرق وتنتهك، لأنها لا تحمل أخلاق الحروب ولا تلتزم حتى بآدابها، لأنها لم تُلقن عقيدة عسكرية وطنية سليمة لم تُدَرس في مدارس تشذيب الأخلاق وتصيحيح والقيم، يُحرق الطغيان الميليشياوي كل جميل..

 

 ألقت جحافل التتار مكتبة بغداد التي كانت الأشهر عالمياً حينها في النهر حتى اخضرَّ ماؤه وتعكر صفوة، لأنهم بحسب توصيف المؤسس الجغرافي الإدريسي الشهير "أمة بربرية وهمج" لم تعرف معاني المعرفة وأهمية الكتاب في بناء العقل الذي بدوره يبني الحضارات، لم يترك التتار من أثرٍ حضاري سوى تاريخ الهدم والقتل الجماعي والرعب، أهلكهم التوحش وعندما صحَت الأمة من صدمتها وتوحدت تجاوزت عقدة الخوف وفكرة الجيش الذي لا يقهر فهزمتهم شر هزيمة..

 

مرت اليمن بما يشبه تلك الحالة بل فاقتها لم تصنع الإمامة طيلة تاريخها في اليمن سوى القيود والزنازن والسجون وتدمير النقوش والآثار وحرق المخطوطات ومصادرة الكتب، كانت قد ظهرت الطباعة في ألمانيا عام 1440م على يد مخترعها غولدسميث يوهان، في حين لم تعرفها الإمامة في القرن العشرين لم تبن في حياتها مطبعة لم تشيد مكتبة لم تترجم نقش تاريخي أو تحقق مخطوطة فقهية أو تاريخية، اندرس في عهدها كل شيء..

 

تعرضت مكتبات علماء صنعاء وجامعاتها للنهب والإتلاف، للحرق والمصادرة في عهد تتار مران، أعادوا الظلام في أواخر الثلث الأول من القرن الواحد والعشري خدشوا كل الوجوه الطافحة بالحياة كسروا كل القلوب المليئة بالأمل فعلوا ذلك في عصر المكاتب الرقمية والثابتة، تحتوي المكتبة التركية على 150 مليووون مخطوطة توثق تاريخ الدولة العثمانية من بداياتها على يد عثمان ارطغرل في العام 1299م دولة على حداثة عهدها أضحكت وأبكت استعانت دولتهم بتاريخها الزاخر على تجاوز أخطاء الماضي ورسم خطط بناء الدولة المعاصرة..

 

 تم بناء مكتبة الكونغرس الأمريكية على 39 هكتار طول رفوفها 856كم تحتوي على 39 مليون كتاب و 58 مليون وثيقة يُعين رئيسا مباشرة بقرار من الرئيس الأمريكي ذاته، أمم تبني استراتيجياتها عن طريق العلم وتتخذ من الكتاب والمخطوطة والمعرفة مرجعية لرسم السيطرة على العالم سياسياً واقتصادياً وثقافياً بحاره وفضائه..

 

قراءة الكتاب تفيد العقل المستنزف، بل وتعدّ غذاءً حيوياً له، وتمدُّه بالتجارب التي فاتته والمعارف والمعلومات التي تصنع له مجداً وحياة فارهة، إذا لم تفد الكتب حاضر الناس بامكانها أن تفيدهم في المستقبل، لازالت الأمم تنهل من معارف كتاب سون تزو الصيني "فن الحرب" الذي ألفه قبل 2400 سنة قعَّدَ فيه للحرب والإدارة والسياسة وعلى ذلك يتم القياس في كل ما خلفته البشرية من معارف غبر القرون.. لذا من الضروريّ الحرص على اقتناء الكتب والحفاظ على تراث الأمة ومحاربة أعداء المعرفة بكل الطرق..وإذا لم يستفيد منها الأب قد يستفيد الأبناء..

 

قد يستهجن القارئ الفكرة بحجة شيوع الحاجة واستحكام الفقر وتحكم جهلة القرى وصعاليك المدن في المشهد اليمني اليوم، وهل كان كل ذلك إلا نتيجة سيئة لمنهجية حكم التجهيل والإفقار الإمامي والطائفي العنصري القروي المقيت!؟.. 

وأجاد الشاعر المتنبي وزاد حين قال..

أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ *** وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي