15- إرساء المشروع وتقنين الأعمال:
لقد كانت غاية النبي –صلى الله عليه وسلم- من الفتح هي إعلاء كلمة الله، وسيادة الإسلام على الجزيرة العربية، وتخليص الناس من الظلم والجهل، ولم يكن فتح انتقام أو سفك دماء؛ فقد كان مشروع البناء الإيجابي والعدالة هو أساس الفتح، وهو تحقيق لقول الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}الحج41، ولذلك شرع الرسول يوم الفتح يرسي النظام والشريعة بالعدالة ويرتب لمكة أمورها التشريعية وإنهاء كل أوضاع الجاهلية وتشريعاتها وأعرافها، فبعد أن كسر أصنام مكة، وخاصة الأصنام التي بداخل الكعبة خرج منها ووقف بباب الكعبة وقد اجتمع الناس إليه، وهو يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده..ألا كل مأثرة أو دم أو مال يًدَّعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصى ففيه الدية مغلظة؛ مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها. يامعشر قريش.. إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظّمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب"، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}الحجرات13
لقد كان الفتح فتحاً للقلوب قبل الفتح العسكري، ورجع الرجل الذي أخرج من بلده طريداً شريداً مكللاً بالنصر والفتح المبين، وهو النبوءة والبشرى والوعد الذي وعده الله سبحانه نبيه عند تهجيره من مكة إلى المدينة لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}القصص85
تنتهي الأحقاد والضغائن وما يعلق بالنفوس من الوجد وحب الأخذ بالثأر مع إعلان الانتصار لدى القادة الحكماء، خاصة إن كان هذا الفتح أو الانتصار عامل استقرار لا يوجد له من يزعزعه ولا من يتربص به، وقد عمل التغيير الشامل والكلي للفصل بين مرحلتين.
في هذا الفتح لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- بواجد على أحد قدر وجده من اثنين؛ هند بنت عتبة ولذلك احتالت على النبي حتى عفى عنها، وعلى ابن عمه أبي سفيان الحارث بن عبدالمطلب؛ ذلك أن خذلان القريب وإيذاءه للقريب أشد إيلاماً على النفس من البعيد، وحتى لا يكون فتحاً أسرياً قبلياً يستغله بنو هاشم، أعرض عن أبي سفيان ولم يكلمه بسبب أن أبا سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب كان شاعراً سفيهاً آذى النبي حتى في عرضه، على الرغم أنه ابن عمه وأخوه من الرضاعة وتربه عند حليمة السعدية، وكان الأصل مناصرته والوقوف معه، غير أنه تحيز ضده وأقذع له القول والهجاء في شعره، وكان حامل راية قريش يوم أحد، ولم يرد عليه إلا شاعر النبي حسان بن ثابت رضي الله عنه. والأعجب من كل ذلك أنه لم يدون، ولم يروَ كثير شعر عن أبي سفيان التي يهجو فيها النبي والمسلمين، وكل ما أثر عنه هو صفاته الشعرية القوية وردود حسان عليه فقط، أو قصائده بعد ذلك في مدح النبي ورثائه، أو يوم إسلامه.
ومنها قول أبي سفيان:
لعمرك إني يوم أحمل راية لتغلب خيلُ اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى وأهتدي
هداني هادٍ غير نفسي ونالني مع الله من طردت كل مطردِ
أصد وأنأى جاهداً عن محمدٍ وأدعى وإنلم أنتسب من محمد
قال أهل السير: إن النبي ضرب على صدره وقال له: "أنت طردتني كل مطردِ"!
وكان أبو سفيان هذا الذي يقذع النبي في عرضه ويسبه، وهو الذي عناه حسان بن ثابت وهو يدافع عن عرض النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله:
ألا أبلغ أبا سفيان عني مغلغلة فقد برح الخفاء
هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذلك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاءُ
في يوم الفتح كان أبو سفيان هذا وعبدالله بن أمية بن المغيرة قد لقيا النبي -صلى الله عليه وسلم- في نيق العقاب؛ بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول على النبي، فأعرض عنهما لما يجد في نفسه عليهما من مؤاذاتهما له، فكلمته أم سلمة، فقالت: يارسول الله، ابن عمك وصهرك، قال: "لا حاجة لي بهما؛ أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال"، وما زالت تراجعه فيهما وتقول له: لا يكن ابن عمك أشقى الناس بك. قال فلما خرج الخبر إليهما بذلك، ومع أبي سفيان بُنيّ له فقال: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً، فلما بلغ ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- رق لهما، ثم أذن لهما، فدخلا عليه وفأسلما.
وكثر الحديث في هذا الموضوع أنه كان كلما وجه وجهه ناحية النبي -صلى الله عليه وسلم- أعرض عنه، وذهب يستنجد بأبي بكر وعمر والعباس وعلي وكلهم يهابون أن يكلموا النبي فيه لما رأوا من إعراض النبي عنه، وبعد إصرار وعنت كبيرين نصحه علي بن أبي طالب بالقول: إئت رسول الله من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}، فإنه لا يرضى أن تكون أحسن قولاً منه، ففعل أبو سفيان. فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، ثم جاء إعلان العفو الشامل عن قريش بقوله: "ما تظنون أني فاعل بكم؟!"، قالوا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.
لقد أنزل النبي الناس منازلهم، وقد أعطى أبا سفيان مفخرة ووساماً لذلك اليوم رغم أنه رأس قريش في الكفر، وأسلم للتو فقال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، فما فرح أبو سفيان بمثلها قط.
لا بد أن نقف هنا وقفة تأمل ودروس وفهم لتصرفات النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفتح، وخاصة حينما أتته المطالب من قومه (بني هاشم) يوم هذا الفتح وتطلع بعضهم إلى بعض العطايا والهبات كمن يعتبرها انتصاراً أسرياً قبلياً على آخرين، وهو ما رفضه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أوردنا قصة أبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب كواحدة من هذه الدروس الهامة؛ أنه رغم قربه من النبي إلا أنه واجد عليه!
عند الفتح، جاءه علي بن أبي طالب، وقيل العباس بن عبدالمطلب، يكلمانه عن أن يجمع لبني هاشم بين السقاية والسدانة، رغم أنهما مسلمان، فرفض النبي –صلى الله عليه وسلم- منحهم ذلك، فأعطاهم السقاية، وسلم السدانة إلى عثمان بن طلحة رغم أنه كان كافراً حينها!
فَقَامَ الْعَبَّاس حينها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُول الله بِأبي أَنْت وَأمي اجْمَعْ لي الحجابة إِلَى الساقية، فَقَالَ النبي –صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيكُم مَا تَرزءون فِيهِ وَلَا تُرزءون بِهِ، فَقَامَ بَين عضادتي بَاب الْكَعْبَة فَقَالَ: أَلا إِن كل دم أَو مَال أَو مأثرة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة فَهِيَ تَحت قدمي هَاتين إِلَّا سِقَايَة الْحَاج وسدانة الْكَعْبَة فَإِنِّي قد أمضيتهما لأهلهما على مَا كَانَتَا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة"، ثمَّ جلس رَسُول الله فِي الْمَسْجِد فَقَامَ إِلَيْهِ عَليّ بن أبي طَالب -رضي الله عنه- ومفتاح الْكَعْبَة فِي يَده فَقَالَ يَا رَسُول الله اجْمَعْ لنا الحجابة والسقاية صلى الله عَلَيْك، فَقَالَ رَسُول الله: أَيْن عُثْمَان بن طَلْحَة؟ فدعى لَهُ فَقَالَ هاك مفتاحك يَا عُثْمَان، إِن الْيَوْم يَوْم بر ووفاد، وَقد أنزلت تِلْكَ الْآيَة الْمَشْهُورَة فِي سُورَة النِّسَاء وَهِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأَمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهْلِهَا} النِّسَاء 58، فَقَالَ خذوها خالدة تالدة لَا يَنْزِعهَا مِنْكُم مَا اسْتَقَمْتُمْ إِلَّا ضال أَو ظَالِم.
أعطيكم ما تَرزؤون فيه ولا ترزؤون به؛ أي: أعطيكم ما تعطون به الناس لا ما تأخذونه منهم، فالسقاية تكليف بخدمة الحجيج تكون فيه لكم اليد العليا، أما السدانة فهي ما يجبى إلى الكعبة من مال لتصرف في شؤون الحجيج، وهنا أعظم الدروس التي لا بد لبني هاشم أن يعقلوها، وهي أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أقفل كل باب يمكن أن يدخل منه المال لهم حتى لا تكون هناك شبهة في تقاضيه الأجر على رسالته وهنا المعنى الأدق لقوله تعالى: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}الشورى23 التي أساء الهاشميون فيها للنبي بمقاضاة أجر الرسالة، وقد قطع النبي أي مدخل للتسلط الهاشمي على أموال الناس.
وهنا ملاحظة هامة في الصلاة على النبي؛ فقد قال علي للرسول –صلى الله عليه وسلم: "أعطنا الحجابة إلى جانب السقاية صلى الله عليك"؛ فقد خصه بالصلاة المعروفة عليه دون عطف أي صيغة أخرى لا من الآل ولا من غير ذلك.
وهناك موقف آخر لإعراض النبي عن أن يتولى بنو هاشم أياً من مداخل الأموال حتى لا تكون طقوساً خاصة بهم واستحقاقاً مالياً لهم على بقية المسلمين، فضلاً عن الولاية العامة التي يتحججون بها على غيرهم، وهي أن اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبدالمطلب، فقالا: والله لو بعثنا هذين الغلامين (قالا لي وللفضل بن عباس) إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلماه، فأمَّرهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدي الناس، وأصابا مما يصيب الناس!
قال فبينما هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب فوقف عليهما، فذكرا له ذلك. فقال علي بن أبي طالب: لا تفعلا، فو الله ما هو بفاعل. فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال: والله ما تصنع هذا إلا نفاسة منك علينا. فو الله لقد نلت صهر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فما نفسناه عليك. قال علي: أرسلوهما. فانطلقا، واضطجع علي. قال: فلما صلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الظهر سبقناه إلى الحجرة، فقمنا عندها، حتى إذا جاء فأخذ بآذاننا، ثم قال: "أخرجا ما تصرران"، ثم دخل ودخلنا عليه، وهو يومئذ عند زينب بنت جحش. قال: فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدنا، قال: يا رسول الله، أنت أبر الناس وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح، فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدي الناس، ونصيب كما يصيبون. قال: فسكت طويلاً حتى أردنا أن نكلمه. قال: وجعلت زينب تلمع علينا من وراء الحجاب أن لا تكلماه. قال: ثم قال [صلى الله عليه وسلم]: إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد؛ إنما هي أوساخ الناس. أدعوا لي محمية (وكان على الخمس) ونوفل بن الحارث بن عبدالمطلب". قال: فجاءاه، فقال لمحمية: "أنكح هذا الغلام ابنتك" (للفضل بن عباس) فأنكحه. وقال لنوفل بن الحارث: "أنكح هذا الغلام ابنتك" (لي) فأنكحني. وقال لمحمية: "أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا". قال الزهري: ولم يسمه لي. (ورد في صحيح مسلم صـ752، 753، رقم الحديث 167، وضعفه آخرون ).
ولئن كان النبي قد وضع التفاخر بالأنساب بعد ذلك، فإنه يدحض الحديث "أنا خيار من خيار من خيار"، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}الحجرات13، وقرأ هذه الآية على الناس في هذا الموطن.
وما زال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقدم دروس الإخلاص والوفاء للنبي دون بني هاشم، ودون سائر الناس، حتى استحق كل تلك المكانة في قلب النبي –صلى الله عليه وسلم- وذلك أنه جاء بأبيه (أبي قحافة) وهو أعمى للنبي -صلى الله عليه وسلم- يحمله على الإسلام، ويضرب الرسول –صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في الصداقة والأخلاق، فقال لأبي بكر: "هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه"؟!
قال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت. فأجلسه بين يديه، ثم مسح على صدره، ثم قال له: "أسلم"، فأسلم.
فقد كان الفتح رحمة وتخليصاً من الظلم والطاغوت، لا تسلطاً وفرض شروط المنتصر، وهو ما نجده في رد النبي –صلى الله عليه وسلم- على سعد بن عبادة حين قال: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة"، قال ابن هشام سمعه عمر بن الخطاب يقول ذلك، فقال: يارسول الله، إسمع ما قال سعد بن عبادة، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب: "أدركه، فخذ الراية منه فكن أنت الذي تدخل بها".
وحتى أولئك النفر الذين أمر الرسول بقتلهم ولو وجدوا معلقين بأستار الكعبة كان لكل واحد منهم قصة وسبباً للقتل، وفي النهاية كان من يستسلم منهم ويجيره بعض المسلمين كان الرسول يجيره ويكف القتل عنهم.
ومع أن الفتح كان رداً على نقض قريش عهدها مع النبي –صلى الله عليه وسلم- بالعدوان على خزاعة فقد منع النبي خزاعة أن ترتكب أية حماقة أو ثأراً من قريش؛ فالهدف العام الفتح الرحيم الذي يرسي النظام والشريعة لا فتح الثأر والقتل.
فلما قتل ابن الأثوع الهذلي أحمراً وكان من خزاعة شديد البأس لا يقوم له النفر في المواجهة فأخذه غدراً وهو نائم، فلما كان اليوم التالي للفتح عرفت خزاعة ابن الأثوع فقتلته، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "يامعشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل؛ فقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم رجلاً لأدينه"، وكان مشركاً فأمر النبي له بالدية.
ثم قام النبي –صلى الله عليه وسلم- خطيباً يحدد الشرائع، ويسن القوانين، ويوضح للناس ما يكونون عليه بعد هذا اليوم، ويحدد مكانة وحرمة الكعبة وقداسة مكة، فقال: "يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض؛ فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة؛ فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد فيها شجراً، لم تحلل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلا هذه الساعة غضباً على أهلها. ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم: إن رسول الله قاتل فيها، فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحللها لكم. يامعشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، فلقد كثر القتل إن نفع؛ لقد قتلتم قتيلاً لأدينه [يعني يقضي له بالدية]، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين؛ إن شاؤوا فدم قاتله [يعني القصاص]، وإن شاؤوا فعقله [يعني الدية]".(سيرة ابن هشام: ج4، صـ58).
وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعث خالد بن الوليد على جذيمة بطن من بطون مكة على أن يدعوهم لا يقاتلهم، فقاتله بعضهم فقتل منهم، فأنكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليه فعله ذلك فتبرأ النبي مما فعل خالد فرفع يديه إلى السماء قائلاً: "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد..ثلاثاً".
خلاصة الموضوع:
- لم يكن فتح مكة فتح ملك، ولا فتح محارب، ولا فتح منتصر على مهزوم، ولا ثأراً قبلياً ولا تسلط نظام جديد على نظام قديم؛ بل كان فتح رحمة، وفتحاً إيجابياً لإرساء شريعة الله وبسط دينه في الجزيرة العربية.
- لم يؤثر النبي –صلى الله عليه وسلم- قومه ولا عشيرته على غيرهم من المسلمين سواء ممن جاؤوا معه فاتحين، أو من قريش المفتوحة أرضهم.
- أرسى -النبي صلى الله عليه وسلم- العدالة حتى مع رؤوس صناديد قريش وكبار كفارها المكنين له الحقد والعازمين قتاله، وأمّن وأجار حتى من أحل دماءهم في نهاية المطاف.
- كان بعض أقاربه ممن من عليهم رغم أنه واجد منهم، وهم كانوا أشد عداء له من غيرهم.
- رفض النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يمنح امتيازات خاصة لأسرته في الفتح (بني هاشم) كما رأينا في عدم جمعه لهم بين الحجابة والسقاية حتى لا يفتح لهم باباً من أبواب الجبايات المالية وتسلطهم المالي على بقية المسلمين، وهذا يدحض افتراءاتهم في الخمس ونهب أموال المسلمين، بل جعل منهم خداماً لبقية المسلمين إن هم عقلوا تشريعاته واستنوا بسنته؛ فالسقاية خدمة للحجاج، والسدانة (الحجابة) هي ما يعود ريعها لمكة لصالح البيت العتيق ورعاية الحجاج ومنحها لعثمان بن طلحة، احترازاً من أن يأخذ أجراً على تبليغه الدعوة الإسلامية، والتي عكسها بنو هاشم فيما بعد، ومنوا بها على بقية المسلمين أن يتسيدوا عليهم بها.
-->