إيران.. فزاعة الغرب لاحتواء الطموحات الإسرائيلية

عبدالباري علاو
الثلاثاء ، ٢٥ فبراير ٢٠٢٥ الساعة ١٢:٠٢ صباحاً

 

على مدار العقود الماضية، لعبت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون دورًا محوريًا في تأجيج الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وبشكل خاص في العالم العربي، متبعة نهجًا استراتيجيًا يهدف إلى إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية والديموغرافية وفقًا لمصالحها؛ مستفيدةً من التناقضات الداخلية لدول المنطقة وصراعاتها الطائفية. لم يكن الهدف مجرد السيطرة على الموارد الطبيعية، بل أيضًا هندسة المشهد السياسي بما يضمن استمرار الهيمنة الغربية ومنع نشوء أي قوة معيقة لخططها. وكجزء من هذه الاستراتيجية، بدا أن الحاجة ملحّة لوجود قوة إقليمية تلعب دورًا تكامليًا مع إسرائيل في ضبط الإقليم.

كانت إسرائيل، منذ نشأتها عام 1948م، بمثابة القاعدة المتقدمة للمصالح الغربية؛ إلا أن فشلها الدائم في تحقيق التجانس والاندماج مع محيطها العربي والإسلامي جعل منها عبئًا أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا على الغرب. فبدلاً من الاعتماد عليها لحماية مصالحه، وجد الغرب نفسه مضطرًا للدفاع عنها وحمايتها في كل المراحل. الأمر الذي دفعه إلى البحث عن شريك آخر يمكنه لعب دور "الحارس الإقليمي" الرخيص وغير المكلف. وفي هذا السياق، برزت إيران كفاعل إقليمي أساسي، ليس كخصم للغرب كما يُشاع، بل كشريك يمتلك إمكانيات استراتيجية تؤهله ليكون "الحارس" الجديد للمصالح الغربية، ولكن بأسلوب مختلف عن إسرائيل. وبهذه الطريقة، تؤدي إيران دورًا مكمّلًا لإسرائيل في ضبط إيقاع المنطقة، رغم التصريحات العدائية المتبادلة بين الطرفين.

في كتابه "أحجار على رقعة الشطرنج"، يشير ويليام غاي كار إلى أن القوى الكبرى لا تعمل بشكل مباشر، بل تعتمد على تحريك بيادقها لخلق الفوضى ثم توجيهها وفقًا لمصالحها. وهذا ما ينطبق تمامًا على الدور الذي مُنح لإيران، حيث تُستخدم كأداة لنشر الفوضى تُتيح للغرب فرض سياساته تحت غطاء "حماية الاستقرار الإقليمي".

ويظل السؤال: لماذا إيران دون غيرها؟

إذا كانت الولايات المتحدة تبحث عن قوة إقليمية تلعب دور الضابط الأمني في المنطقة إلى جانب إسرائيل، فلماذا وقع الاختيار على إيران وليس على دول مثل السعودية أو مصر أو تركيا؟

للإجابة على هذا السؤال، نستعرض بعض العوامل التي تجعل إيران الشريك الأنسب للغرب:

1. إيران حليف منخفض التكلفة:

   مقارنة بإسرائيل أو السعودية، تُعد إيران حليفًا أقل كلفة من حيث الدعم العسكري والمالي؛ إذ تُدير نفوذها الإقليمي بمواردها الخاصة، ومن خلال أدواتها العسكرية مثل الحرس الثوري والميليشيات التابعة لها في العديد من دول المنطقة، مما يضمن حماية المصالح الغربية دون الحاجة إلى تدخل مباشر.

2. المذهب الشيعي ليس لديه رسالة عالمية:

   على عكس الحركات الإسلامية السنية أو القومية العربية، يركز الفكر الشيعي الإيراني على قضايا طائفية محددة، ولا يحمل مشروعًا عالميًا ينافس الغرب. وكما قال برنارد لويس، المستشرق والمخطط الأمريكي البارز، "الشيعة لا يشكلون تهديدًا للغرب مثلما تفعل الحركات السنية ذات الطابع الأممي".

3. إيران أداة فعالة في تفكيك المنطقة:

   في مقابلة أجرتها قناة الجزيرة عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، صرح بول بريمر، الحاكم الذي عينته أمريكا على العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين، قائلاً: "عندما أطحنا بصدام، أطحنا معه أيضًا بألف سنة من التسلط السني لبلاد ما وراء النهرين، بدءًا من الخلافة العباسية وانتهاءً بحكم صدام". يكشف هذا التصريح أن الحرب التي شنتها أمريكا على العراق كانت في مصلحة إيران؛ إذ تجد أمريكا في إيران – وما تحمله من حقد طائفي ضد كل ما هو سني – شريكًا مناسبًا في استراتيجيتها الهادفة لإعادة تشكيل ميزان القوى في الشرق الأوسط وفقًا لمصالحها.

4. إيران شريك غير معلن في احتواء الطموحات الإسرائيلية:

   على الرغم من التحالف الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة، أصبح النفوذ الإسرائيلي المتزايد والمتغلغل في عمق المراكز السيادية في الغرب مصدر قلق للقوى الوطنية والديمقراطية. لذا، يرى الغرب أن وجود قوة إقليمية مشاكسة مثل إيران يخلق نوعًا من التوازن التكتيكي، مما يمنع إسرائيل من الانفراد بالهيمنة على خارطة الشرق الأوسط ويقيد طموحاتها في السيطرة على مفاصل اتخاذ القرار في الدول الغربية.

إسرائيل وإيران: تنافس تكاملي أم صراع حقيقي؟

رغم العداء المعلن بين إسرائيل وإيران، يعكس الواقع صورةً مختلفة؛ إذ لم تصل الهجمات المتبادلة – سواء المباشرة أو عبر الوكلاء – إلى مستوى تهديد وجودي لأي منهما. على العكس، يخدم هذا الصراع مصلحة الطرفين، إذ يبرر لإيران توسعها الإقليمي تحت شعار "مقاومة إسرائيل"، بينما تستفيد إسرائيل من التهديد الإيراني لتعزيز الدعم الغربي لها وإجبار الدول الخليجية على التطبيع معها بدافع الخوف من النزق الإيراني.

في هذا السياق، أشار الباحث الأمريكي تريتا بارسي في كتابه "التحالف الغادر" إلى أن "العداء بين إيران وإسرائيل هو في جزء كبير منه مصطنع، يخدم أغراضًا استراتيجية لكلا الطرفين". وهذا التفسير يتماشى مع حقيقة أن إسرائيل لم تستهدف أي منشأة نووية إيرانية بشكل مباشر رغم قدرتها على ذلك، كما أن إيران لم توجه ضربة عسكرية مؤثرة لإسرائيل رغم امتلاكها ترسانة صاروخية قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي.

إيران وإسرائيل: عداء ظاهري وشراكة خفية

على الرغم من التصريحات العدائية بين طهران وتل أبيب، تشير الشواهد التاريخية إلى وجود تنسيق غير مباشر بين الطرفين يخدم المصالح الغربية. ففي الثمانينات، وخلال الحرب العراقية-الإيرانية التي كانت الكفة فيها ترجح لصالح العراق، كشفت وثائق "إيران-كونترا" أن إسرائيل زوّدت إيران بالسلاح بوساطة أمريكية، مما يُظهر أن العداء المعلن لا يعكس بالضرورة الحقائق على الأرض. كما أن إيران لم تشن أي هجوم عسكري مباشر على إسرائيل طوال العقود الماضية، رغم تبنيها خطابًا متشددًا تجاهها، بينما وجهت معظم قوتها العسكرية نحو الدول العربية، مما يدعم فرضية استخدامها كأداة لضرب الاستقرار الإقليمي دون تهديد حقيقي لإسرائيل.

كيف تُستخدم إيران في الاستراتيجية الغربية؟

تعتمد الولايات المتحدة على إيران كأداة رئيسية في تنفيذ سياسات التفتيت وإعادة رسم الخرائط في المنطقة، وذلك من خلال:

- إثارة النزاعات الطائفية:

  منذ سقوط بغداد عام 2003، برز النفوذ الإيراني في العراق، حيث استُخدمت إيران لإعادة هيكلة البلاد وفق أسس طائفية، مما أدى إلى انقسامات حادة خدمت المصالح الغربية وأضعفت إمكانية نشوء دولة عربية قوية وموحدة.

- إبقاء الخليج تحت التهديد:

  إن التوتر المستمر بين إيران ودول الخليج، خاصة السعودية، يبرر استمرار الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة ويضمن تدفق صفقات الأسلحة بمليارات الدولارات سنويًا.

- إجهاض أي مشروع نهضوي عربي:

  لعبت إيران دورًا محوريًا خفيًا في إسقاط نظام صدام حسين الذي كان يشكل تهديدًا لها ولإسرائيل، كما دعمت الحركات المسلحة ذات الطابع المذهبي في سوريا والعراق ولبنان واليمن، مما أدى إلى تدمير تلك الدول وتفكيك إمكانية ظهور مشروع نهضوي عربي قادر على فرض نفسه كقوة إقليمية مستقلة.

- منح إيران هامشًا للمناورة والمشاكسة مع إسرائيل:

  شكّلت المشاكسات الإيرانية تجاه إسرائيل فرصة ذهبية لواشنطن، حيث وظّفتها تكتيكيًا لضبط التوازنات الإقليمية، وإشغال إسرائيل بخصم إقليمي مشاكس، مما يحدّ من طموحاتها في لعب دور دولي يتجاوز الحدود المرسومة لها من قبل الغرب.

هل ستستمر إيران في لعب هذا الدور؟

في ظل التطورات الجيوسياسية المتسارعة، يبدو أن إيران ستظل تلعب دور "الخصم الموالي" في الاستراتيجية الغربية، حيث تُستخدم كأداة لابتزاز دول المنطقة، بينما يُضبط نفوذها بحيث لا يتحول إلى تهديد مباشر للمصالح الغربية أو الإسرائيلية. ستبقى إيران جزءًا من اللعبة التي يديرها الغرب في المنطقة، إلى أن يحين الوقت لاستبدالها بحليف آخر، كما حدث مع أنظمة سابقة كانت تُعتبر "كنوزًا استراتيجية" ثم تخلّى عنها الغرب عند انتهاء صلاحيتها.

ماذا يعني كل ذلك للمنطقة وللعرب خاصة؟

مع استمرار إيران في لعب دورها الإقليمي تحت شعار "المقاومة"، ومع تعزيز مكانتها كشريك ضمني للغرب، تجد الدول العربية نفسها في مأزق استراتيجي. فالرهان على التحالف الأمريكي التقليدي لم يعد مضمونًا، كما أن الاعتماد على إسرائيل كحليف ضد إيران خيار يحمل تناقضات كبيرة.

ويظل الخيار الوحيد أمام الدول العربية للخروج من هذا المأزق هو الاعتماد على نفسها، واستبدال هواجسها وتوجساتها تجاه بعضها بعلاقات تكاملية متكافئة على قاعدة الاحترام المتبادل لخصوصيات كل دولة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، بما يضمن تعزيز الثقة فيما بينها لخلق تكامل يفضي إلى حماية مصالحها ووجودها من هذا الاستهداف الممنهج الذي يستهدف دولها واحدة تلو الأخرى.

وإن لم يتم ذلك، فإن المصير المحتوم سيكون شبيهًا بمصير الهنود الحمر في أوطانهم الأصلية، لتصبح الأمة فيما بعد مجرد قبائل فسيفسائية متناحرة متنافرة، تنضوي تحت راية أي من القوى الإقليمية غير العربية التي تسعى اليوم لفرض وجودها ومشروعها في المنطقة على حساب الوجود العربي والمصالح العربية.

عبدالباري علَّاو

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي