الرقص فن قديم، شهدته الحضارات المختلفة، مارسه الإنسان في مناسبات متنوعة، والإله «بس» هو إله الرقص في الحضارة الفرعونية، وكانت توابيت الفراعنة تحمل صوراً لشخصيات راقصة، كأنما تعبر عن بهجة اللقاء في العالم الآخر، أو عن رغبة في تهيئة جو فرائحي في عالم الموتى، ضمن طقوس «الرقص الجنائزي» القديم.
وكان الرقص المرتبط بالمناسبات الدينية موجوداً في معابد سومر وبلاد ما بين النهرين، وشهدته حضارات فارس والهند، وأواسط آسيا ومعابد آلهة الإغريق والحضارات القديمة في الأمريكيتين. وهناك من يذهب إلى أن الرقص كان في الأصل نوعاً من الصلاة للآلهة القديمة، والشاهد على ذلك رقصات المطر التي تقدم لآلهة الخصب، ورقصات الديانة الشامانية التي تتم لجلب غضب الآلهة على الأعداء، أو توسل نصر «الأرواح» وغيرها من الأغراض، ولا تزال بعض القبائل البدائية من سكان الغابات في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وغيرها يمارسون بعض الطقوس والشعائر الدينية في حركات راقصة.
ويحدثنا القرآن الكريم عن أن طقوس الرقص كانت تمارس أثناء موسم الحج إلى مكة قبل الإسلام، «وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية» وتحدثنا كتب السيرة النبوية أن أهالي يثرب استقبلوا نبي الإسلام عليه السلام بالرقص والغناء، كتعبير عن فرحهم بقدومه، ولا يزال الرقص يحظى بمكانة دينية رمزية لدى فرق التصوف الإسلامي، وهناك أنواع مختلفة من هذا الرقص الصوفي الذي يعيد تشكيل حركات الجسد على إيقاع روحي خالص.
وفي ساحات الحرب كان الإنسان يتغنى بألحان ملحمية للحماسة، ويمارس نوعاً من الرقص، لترهيب العدو، ولا تزال بقايا رقصات الإنسان القديم في ساحات المعارك، لا تزال موجودة في إيقاعات النوتات العسكرية، وفي إيقاع حركات عناصر حرس الشرف والمراسيم والتشريفات لدى الجيوش الحديثة. كما لا تزال بعض الرقصات تؤدى بالسيوف والخناجر وأدوات الحرب القديمة، لتعكس هذه الرقصات أصولها الأولى التي تعود إلى أجواء المعارك والحروب.
غير أن الجانب الفرائحي ظل هو الجانب الأهم في فنون الرقص، حيث رقص الإنسان في المناسبات والأعياد، ورقص في الأعراس، وفي حفلات تنصيب الملوك، وفي مناسبات تقليد الأمراء بالسيوف، ونيل ثقة حاكم أو أمير في المناصب والمهام، إذ ارتبط الرقص بالفضاء العام ومجالاته المختلفة من اقتصاد واجتماع وسياسة، وما يرتبط بهذه المجالات من مناسبات وأحداث.
وإذا كان الرقص فناً، فإن السياسة فن كذلك، وهما يشتركان في أمور كثيرة، والفارق الوحيد بين الرقص والسياسة يكمن في أن الراقصة تحرك جسدها، فيما يحرك السياسي لسانه، على رأي المرحوم إحسان عبد القدوس. السياسي يرقص على إيقاع الأحداث، يرقص بتحريك جسده ولسانه ومواقفه وهو في كل الحالات يرقص بتحريك ضميره، تبعاً لإيقاعات المصلحة والتوجهات العامة، واهتمامات الجمهور والرأي العام، والسياسي البارع كالراقصة البارعة يجيد تقديم المَشاهد الاستعراضية القائمة على المفاجأة والإدهاش والخفة والرشاقة، وتحريك المواقف والضمير، حيث الرقص بتحريك المواقف هو أكثر أنواع الرقص السياسي شهرة وتأثيرا.
السياسة رقص والرقص سياسة، وكما يتحتم في الرقص ـ أحياناً ـ أن يتم في حيز مكاني ضيق، يتحتم على السياسي كذلك أن يرقص فوق حقول ألغام، وفي هوامش ضيقة ومعقدة، وكما تقفز الراقصة في حركات رشيقة لتقديم أفضل العروض يقفز السياسي من موقف إلى آخر، لتقديم عروض، ليس بالضرورة أن تكون هي الأفضل.
وقد مارس الرقص ساسةٌ كُثر، على طول التاريخ السياسي للأمم والشعوب، ساسة يقفزون من مراكب غارقة إلى أخرى شبه ناجية، ساسة مارسوا رقصة القرود التي تقفز من غصن إلى آخر، ومن شجرة إلى غيرها. وفي 2011 كان الرقص السياسي ميزة واضحة، عندما ضرب «الربيع العربي» أنظمة في المنطقة، وحينها حجز هؤلاء الساسة لهم مكاناً في المراكب التي أبحرت عبر موجات الربيع المتلاطمة، ثم لما عتت الريح مرة أخرى، قفزوا إلى مراكب أخرى، في رشاقة لاعبي السيرك أو راقصات الباليه.
وإذا كانت السياسة رقصاً، فإن الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح كان يرى أن السياسة والحكم في اليمن رقص خاص، يشبه «رقصة الموت» عند العصافير الذبيحة، «رقص على رؤوس الثعابين» حسب تعبيره، وهو رقص مخيف، لأن الذي يرقص ـ هنا ـ لديه مهمتان: الأولى ممارسة الرقص، والثانية الانتباه لرأس الأفعى، حيث ينظر بعين إلى الجمهور، ويضع أخرى على رؤوس تلك الزواحف القاتلة. الرئيس صالح أجاد لعقود «رقصة الموت» تلك، وكان ماهراً فيها، لكنه ربما نسي أن الثعابين ـ وهي تتهيأ للدغتها المميتة – تمارس كذلك نوعاً من الرقص، وهذا ما كان، عندما تعرض للدغة قاتلة من أحد الثعابين.
-->