تعز في مرمى نيران الجميع؛ إماميين حوثيين، انتقاليين، عفاشيين، وحتى من أحزابها ومكوناتها التي شطرت نفسها بين الممولين المحليين والخارجيين!
لم تكن حملات التحريض والكراهية ضد تعز بريئة؛ فهي متصاعدة دون سبب، تعود جذورها التاريخية إلى عهد الإمامة تشويهاً وتحريضاً باعتبارها أرضاً كفرية لكفار تأويل؛ كون الأتراك فقط مروا من عليها واستقروا في صنعاء التي اتخذوها عاصمة لهم في اليمن.
فقد كان في الفكر الإمامي والعقيدة الإمامية أن أية بلاد تقع تحت سلطة غير سلطتهم تعبر بلاد كفار تأويل، ولأن تعز وغيرها كانت تحت سلطة الأتراك فقد استخدمت هذه العقيدة الإمامية ضدها وضد إب وعدن وتهامة وغيرها، ولذلك كانت الإمامة تتسلط عليها عقائدياً قتلاً وتدميراً وحرقاً ونهباً وتشريداً. وهي نظرة وممارسة مليشيا الإرهاب الحوثية اليوم بحق تعز أيضاً، لم تتبدل ولم تتغير.
ما إن حملت تعز شعلة التنوير الذاتي بين أهلها بنشر العلم والمعرفة والثقافة، وكونها عاصمة النهضة العلمية للدولة الرسولية حتى كانت الإمامة تنظر إليها مقتاً، جعلت من الإمام أحمد حميد الدين أن يتخذها عاصمة له للجثم على أهلها وكتم أنفاسهم، ومع ذلك لم يستطع إطفاء تلك الشعلة التي قبست بنورها ونارها ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، ثم بعد ذلك ثورة الرابع عشر من أكتوبر، ما لبثت أن كانت ملجأ كل اليمنيين شمالاً وجنوباً، وحصن الثورتين خاصة بعد حصار السبعين يوماً الذي شكل بعد ذلك تآزر العنصريتين المناطقية والطائفية عليها فأجهضت على كل مشكاة جديدة للتنوير والثورة والانتقال باليمن إلى مصاف الدول الحضارية.
كانت محطة التصفية الأولى في صراع أغسطس 1967 للمشروع الثوري اليمني، وكان الجميع يراه متمثلاً في الشخصيات القيادية الثورية التعزية تحديداً، تعامل معه بعض شخصيات تعز بحسن نية كالنعمان ومحمد علي عثمان اللذين اصطفا مع بقية القوى الأخرى ضد عبدالرقيب وثلته، ثم ما لبث أن ارتد عليهما فيما بعد من قبل ذات الصف الذي ناصراه.
مثل الحمدي نقطة إيجابية في التعامل مع محافظة تعز كرافع سياسي وإداري للدولة اليمنية، وربما كان مرحلياً أيضاً ريثما يستقيم مشروعه هو الآخر، وإلا فقد كان ينظر لعبدالرقيب ورفاقه نظرة مرادفة لنظرة اللسلطة وقد شارك، أو تصدر لحملة الاعتقالات الكبيرة لتلك الثلة الثورية حينما كان قائد لواء الاحتياط.
كانت تصفيات أغسطس 1967 واحدة من أهم الشروخ التي أودت بالجمهورية والثورة والدولة، ظلت آثارها مقياساً للتعامل فيما بعد في عهدي الغشمي وصالح ضد تعز وأبنائها، متعاملين معهم كأمر واقع فقط في توظيف إداري كعاملين خادمين للسلطة الممسكة بزمام الدولة، لا كشركاء حقيقين في الدولة والوطن.
عمل الرئيس صالح على تدجين الشخصية التعزية، فوزع لهم المناصب الإدارية الثانوية، في حين لم يكن هناك قائد عسكري ذا وزن حقيقي في الجيش في عهده، وقد كتم أنفاس الشخصية الوحيدة الكبيرة والوازنة المتمثلة في رئيس الوزراء الأسبق الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني وما رافق سمعته من التسليم والإذعان الكامل لشخص الرئيس صالح دون إبداء رأي أو اعتراض، حتى أطلق عليه لقب (عبده مرحبا)؛ كونه كان يتعرض للتهديد المستمر من قبل صالح، حتى تم القضاء على كل رأس مال تجاري تعزي عدا أسرة هائل سعيد أنعم الذي كانت لقمة أكبر من أن يبتلعها، وبسبب تفرع استثماراتها في الداخل والخارج، ومع كل ذلك لم تسلم من دفع الإتاوات اللازمة دون أن تعود بشكل تنمية حقيقية للمحافظة، كما يفعل معها الحوثة اليوم!
وعلى الرغم من أن تعز كانت تمثل العمق الحقيقي لأبناء الجنوب خاصة عدن وشبوة ولحج إلا أن المحافظات الجنوبية هي الأخرى تكن حالياً عداءً غير مفهوم ولا مبرر لتعز، وخاصة بعد حرب 1994 وحتى اليوم، على الرغم من أنها كانت موطن استقرار كل الشخصيات والمكونات الهاربة من بطش الاشتراكي من الجنوب، خاصة بعد انقلاب 13 يناير 1986م.
في حرب صيف 1994 كان الرئيس صالح بكل أجنحته السياسية والقبلية والعسكرية والمناطقية ممسكاً بكل مفاصل الدولة وتلابيبها، وهو رأس هذه الحرب وطرفها الشمالي، في حين كان الطرف الجنوبي المتمثل في الحزب الاشتراكي اليمني برئاسة علي سالم البيض، قد أعلن الحرب الاستباقية من جهته بتفجير الحرب على لواء العمالقة في عدن وعلى اللواء 310 في عمران، بعد رفضه العودة إلى صنعاء بموجب اتفاق وثيقة العهد والاتفاق التي وقعت بين الطرفين في العاصمة الأردنية عمان برعاية الملك حسين بن طلال، على الرغم من أن بقية المكونات كانت داعمة لصالح بما في ذلك الطرف الجنوبي الذي هزم في 13 يناير والذي كان على رأسه وزير الدفاع حينها (أثناء الحرب) عبد ربه منصور هادي، والتي أفضت إلى انتصار طرف الشرعية حينها، وعلى الرغم من كل ذلك كان الخطاب الجنوبي التصاعدي يتوجه ضد تعز وأبنائها تحديداً، ملقين باللائمة عليها لا على من يمسك زمام السلطة بشكل فعلي!
ظلت حملة الكراهية تتصاعد ضد محافظة تعز بشكل غير مبرر، وعلى الرغم من محاولاتي المستمرة أن أقف على سبب حقيقي لهذا الأمر سابقاً ولاحقاً بين العسكريين أو الإعلاميين أو السياسيين أو حتى الحزبيين، لم أقف على سبب وجيه ومحدد يمكن أن تؤاخذ عليه تعز وأبناؤها إلا سبباً فرعياً وقاسماً مشتركاً لا يمثل في وجهة نظري سبباً حقيقياً لكل تلك الكراهية وحملات التحريض والاستعداء، وهو قولهم: أنهم كانوا يعولون على تعز أن تقف معهم في خندق واحد، وأن بعض جبهات الحرب انطلقت من تعز، وهو ذات الأمر الذي ألمح إليه صالح في خطابات متكررة ابتداءً وحوارات متعددة مؤاخذاً محافظة تعز في نفس المأخذ الذي يكنه أبناء الجنوب لتعز على تعز، وياللعجب!!
كان صالح يكرر في أكثر من خطاب ومقابلة صحفية أن "بعض المحافظات كانت تتربص في الحرب؛ فإن انتصر الشمال فهي شمالية ومع الوحدة، وإن انتصر الجنوب فهي جنوبية مع الجنوب"، وهو يقصد بالطبع محافظة تعز، ومن يريد أن يتأكد من هذه الخطابات والحوارات فليعد إليها بعد تلك الحرب.
للأمانة حتى سلطة صالح حينها بعد تلك الحرب اتخذت سياسة مبطنة تجاه تعز وكأنها تعاقبها من عدة أوجه؛ فقد أعرض عن أية تنمية حقيقية في المحافظة على الرغم من عدة اقتراحات ومطالبات ومساندات من قبل الرأس المال التعزي للتوجه نحو تنمية المحافظة كمشروع تحلية المياه من المخاء للمدينة المحرومة من المياه، وإقامة الجسر الرابط بين اليمن وأفريقيا في باب المندب، وعمل مدينة صناعية للمحافظة، ناهيك عن تحويل الطرق الاستراتيجية الرابطة بينها وبين المحافظات الأخرى لتعزيز الترابط والتواصل التجاري والإنمائي، والتنقيب المعدني في جبالها...إلخ، التي عارضها صالح وأعرض عنها كذلك.
كان هناك بعض التوجهات الأخرى لتدجين هذه المحافظة من خلال إزاحة كل المشيخات والشخصيات المؤثرة وعمل سياسة انشطارية فيها موالية صالح لا ترتبط بأية روابط مجتمعية مع جمهورها؛ ففرخ للمشايخ الحقيقيين مشايخ مهمشين ثانويين يمسك بتلابيبهم شديدي الولاء له، وبث سياسة التجهيل التي تقضي على أهم مقومات وركائز تعز العلمية والثقافية، وهو ما نشاهده في جيل اليوم، الذي لا يمت إلى العالم الثقافي والسياسي بصلة، ناهيك عن بث شبكات المخدرات التي كانت ترعى بسياسة الدولة للقضاء على صلب تعز!
حتى في الانتخابات النيابية والمحلية كان هذا العمل التفتيتي الانشطاري أكثر ما أبرز جيلاً مترهلاً وشخصيات مدجنة لصالح؛ فقد كان يدعم كثيراً من الشخصيات غير الوازنة والسفيهة باسم المؤتمر ويسخر لها كل أنواع الدعم المالي والتنظيمي والجماهيري والسياسي حتى يوصلها إلى التصدر فيقضي على الشخصيات الحقيقية المؤثرة والوازنة، وبالتالي إبقاء الشخصيات المدعومة الجديدة مرتبطة له برابط الولاء الشخصي ليس رابط الدولة والمؤسسة، وهذا أنتج كل هذه الغثائية والرابط الولائي الذي استخدمه مع الانقلاب فذهب كل أولئك في طريق صالح دون أي اعتبار لمصالح الوطن والدولة والمؤسسة، وورث الحوثي كل ذلك بفعل التحالف بينهما، وجد أولئك أنهم ارتبطوا ضمنياً بالحوثي ولم يستطيعوا التراجع إلى الوراء إلا المضي في طريق الانقلاب حتى النهاية.
قد يرى كثير من الناس هذه الأشياء غير حقيقية أو مبالغ فيها، لكن من يُعمِل فكره وإدراكه ويتتبع الواقع أولاً بأول وخطوة خطوة، مع كثير من التمحيص والفكر، سيجد كل هذا وأكثر، مما نتحاشى الكتابة عنه حفاظاً على ما تبقى من وحدة الصف.
كل هذه الأسباب، فضلاً عن الانسداد السياسي في البلاد، الذي استغلته أحزاب اللقاء المشترك انفجرت بشكل احتجاجات مستمرة متصاعدة منذ عام 1997 منذ أن استفرد الرئيس صالح بكل شيء في البلاد دولة ومؤسسات وتعميق انقسام الجيش والمضي في طريق التوريث زاد من سخط الجميع ضده بما في ذلك أهم شريحة في البلاد هي شريحة الشباب من كل أنحاء اليمن، وظهرت الاحتجاجات المستمرة التي أفضت إلى ثورة 2011، والتي كانت الطامة التي قصمت ظهر اليمن عامة وظهر تعز خاصة.
.... يتبع
-->