▪ عرف الديك وهوس الألقاب الإدارية: يمثل الديك في ثقافتنا العربية رمزاً للسلطة والزعامة وامتلاك القرار في السياسة والحكم والحياة الاجتماعية والعائلية، كما هو في الإدارة والحياة المهنية ذات الديك الثمين المتمثل في المنصب الإداري كأحد أهم مصادر للدخل المرتفع، والرفاهية والامتيازات والحظوة والنفوذ، وحتى الحضور المجتمعي والمكانة.
ولأن الهوس بالسلطة نزعة إنسانية جامحة وجزء من ثقافة وفكر مجتمعنا العام والمهني، فإن معظمنا إن لم يكن جميعنا نضع خطوتنا الأولى في الحياة المهنية، وأعيننا على عرف الديك باعتباره الغاية والحلم والطموح الكبير، الذي يوقد شغفنا ويشعل حماسنا ويلهم رؤانا لنتعلم ونتطور ونتدرب، ونتميز ونثابر ونعمل على تقديم أفضل ما عندنا.
لذلك عادة ما تكون السنوات الخمس إلى السبع الأولى من حياتنا المهنية خصبة وثرية وزاخرة بالتطور والتعلم والتدريب والتنافسية، ولكننا نبدأ بعدها نفقد الأمل في الوصول إلى عرف الديك، ولو في المدى المنظور، فيبدأ الكثير من الأفراد معها يفقدون شغفهم ويتخلون عن أحلامهم وينسحبون من ميدان المنافسة والمثابرة تباعا مكتفين بسقف طموح أقل قد يصل للحد الأدنى من الطموح المتمثل بالبقاء كما هو عليه.
ولماذا يفقد الناس شغفهم؟ الجواب هو: بسبب نمط الفكر التقليدي للإدارة الذي يضع الموظف أمام مساق مهني ونمو وظيفي ضيق الأفق قصير المدى أحادي المسار، يسمح لنسبة قليلة من الكفاءات بالترقي والتطور في مستوى إلى مستويين ضمن المسار المهني، ثم يبدأ التنافس على الفرص القليلة من الوظائف الإدارية والإشرافية، بينما تفقد معظم الكفاءات فرصها في الترقي إلا وفق مسارات شكلية طويلة الأمد تبعا لسنوات الخدمة وليس للكفاءة. والأكثر من ذلك أن كل الامتيازات والأجور العالية والمكافآت الحوافز والسفريات والتدريب الخارجي والمؤتمرات والمشاركات الخارجية مغلقة على الدرجات الوظيفية للمدراء وما فوقهم وبالتالي فإن النسبة القليلة تحظى بها بينما الغالبية العظمى تحرم منها.
من هنا تبدأ الإشكاليات تظهر وتتراكم التحديات أمام الأفراد والإدارة والشركة على حد سواء، ثم تتحول إلى شبكة معقدة ومتداخلة من الأسباب والإشكاليات والمظاهر والمعالجات الشكلية، التي تولد بعضها بعض وتعيد نفسها في ذات الحلقة المفرغة التي يطول الحديث عنها وعرضها في مقال واحد.
إن أهم ما يواجه الموظف والشركة والإدارة في ظل هذا النمط التقليدي هو الانسحاب التدريجي لشريحة كبيرة - قد تصل لثلثي فريق العمل - عن الواجهة، والتخلي عن طموحهم وأحلامهم، فينطفئ شغفهم وحماسهم، ويخفضون سقف توقعاتهم.
كما أن ترقية الموظف وفق كفاءته المهنية في النظام الإداري أحادي المسار يؤدي إلى قتل كفاءة مهنية متميزة قابلة للنمو إلى كفاءة إدارية فاشلة، بل حتى الكثير من الكفاءات المهنية الناجحة إداريا تدخل في الكثير من المهام وتتشتت وتدخل منطقة الراحة والجمود والروتين اليومي، وتتشتت بين المهارات والجدارات المهنية والإدارية، مع إعطاء أولوية عالية أو كلية للأخرى على حساب الأولى.
ولأن العالم اليوم يتطور ويتقدم بشكل متسارع وتتغير بيئة وبنية ونظم وتقنيات وأدوات الأعمال والإدارة، وتتعقد الظروف أكثر وتتغير معايير وشروط التوظيف ووزن وتثمين المهن، بينما يتوقف معظم الأفراد عن تطوير أنفسهم وتحسين قدراتهم، ويفقدون الرغبة والشغف والحافز في الاطلاع والمواكبة والتعلم المستمر والتفاعل الإيجابي مع برامج التدريب الداخلي إن وجدت فينتج عن هذه المعادلة غير المحسوسة نوع من التلاشي المستمر، الذي يفقد معه الفرد سواء أكان موظفا أم مديرا قيمته المهنية في داخل شركته، وفي سوق العمل المحلية والخارجية بمرور الوقت.
كما قد تكتشف الشركة بعد سنوات أنها تأخرت كثيرا عن العالم، وأن جسدها لم يعد مرنا وصحيحا بما يكفي للتطوير والتحديث والنمو المتوازن ولو بالحد الأدنى المواكب لبيئة الأعمال وتحولاتها، بل قد تكتشف أنها لم تزد خلال عقود طويلة من بناء كفاءات تقادمت بمرور الوقت، واصبحت كفاءاتها المهنية وقياداتها الإدارية مجرد مدراء وأفراد لتسيير الأعمال. فضلاً عما ينتج عن هذا النمط الإداري العقيم من ضعف الإنتاجية وتراجع مستوى الأداء وجودته، بالإضافة إلى تسرب الكفاءات وانخفاض الرضا الوظيفي وسيادة الشعور بالظلم والغبن والدخول في دوامة من المطالب والشكاوي والتظلمات التي لا تنتهي بل ويصعب معالجتها
▪ ما الحل من منظور الإدارة الحديثة؟ في الحقيقة ما تزال معظم الشركات والمؤسسات العامة والخاصة في مجتمعاتنا تطبق وتتمسك بهذا النمط التقليدي القديم، محاولة التحسين والتطوير ومعالجة الإشكاليات التي تحدث معالجة إدارية وتنظيمية في إطار ذات النمط، كتوسع الدرجات، وزيادة السنوات المطلوبة للترقية، أو بزيادة الرواتب وغير ذلك، منتجة المزيد من الإشكاليات والتحديات الجديدة.
بينما الإدارة الحديثة ومنهجها التنظيمي الجديد وما تطبقه الشركات العالمية يعتمد على بناء مساق مهني للموظف، يسمح له بالنمو الوظيفي في مساريين متوازيين الأول المساق الإداري المعروف، والأخر مساق مهني موازي لا علاقة له بالإدارة ولا بالمناصب الإدارية وإدارة الأفراد، ولكنه يمثل مستويات ومناصب مهنية عليا بذات الدرجات والامتيازات والرواتب التي تمنح لما يقابلها من وظائف الإدارة الوسطى والعليا.
كما أن نظام الترقية والدرجات في النظام الحديث لا علاقة له بسنوات الخدمة مطلقا بل بالكفاءة وقائمة مهارات وجدارات الموظف فقد تصل بسنوات لأعلى منصب، وقد تظل عمرك في درجتك إذا لم تطور من ذاتك.
ففي النظام الحديث يتم تحديد الدرجات والأجور والامتيازات وفق نظام مهني بحت يقوم على تقدير الوزن النسبي للوظيفة وفق محددات ومعايير كثيرة تجعل احيانا من وظيفة مدير إدارة في أوقات كثيرة أعلى من وظيفة مدير عام في الدرجة والمستوى والامتيازات.
لذلك يمكن اعتبار أن هذا النظام يمثل الحل الامثل والنظام الاكثر حفزا للكفاءات والمهم باعتباره يقوم على معايير مهنية بحتة، ومعايرة عادلة، ويفتح افقا واسعا وممتدا للكفاءات المتميزة والطموحة وذوي الهمم العالية من تحسين وتطوير أنفسهم، والاحتفاظ بشغفهم ليتحولوا إلى خبراء واساتذة وكبار الخبراء والمستشارين في مجالهم وربما يصبحون لاحقا مدراء ورؤساء تنفيذيين.
▪ لماذا عليك أن تكون خبيرا لا مديرا؟ قد يتساءل البعض أو يعترض هو محق، بأن النموذج الحديث للنمو الوظيفي أو المساق المهني ثنائي المسار، وما يتصل به لا يمكن استيعاب الكم الهائل من الكفاءات التي لا تجد فرصتها في مساق النمو الإداري ولا النمو المهني، لأنه ايضا محدود الفرص والوظائف في كل شركة مثله مثل وظائف الإدارة، كما أنه ليس كل فرد قادر على ان يصبح خبيرا أو أكثر من ذلك ولا الجميع لديهم القدرات والإمكانيات والفرص لتحقيق ذلك؟ خصوصا فرص التأهيل والتدريب في المؤسسة التي قد تتوزع وفق معايير مختلفة.
في الحقيقة لا أختلف مع طرح كهذا بل أتفق تماما معه، ولكن ما أنا متأكد منه ومتحمسا له هو أن العالم اليوم وبيئة أعمال الألفية الثالثة تحتاج صقوراً لا ديكة، وهو ما يوفره ويساعد عليه مساق النمو الوظيفي ثنائي المسار وما يتصل به من معايير وشروط الدرجات والترقية والاجور والامتيازات وتثمين الوظائف بصفته النظام الأمثل لحفز الطاقات وشحذ الهمم وتشجيع التعلم المستمر والاستفادة من فرص التأهيل والتدريب المتاحة داخل المؤسسة او الشركة وفي منصات التعلم عن بعد وفرص بناء العلاقات المهنية.
بل أنني أدعو الجميع شركات وقيادات وأرباب عمل ومدراء وموظفين إداريين وفنيين وحتى عمال إلى أن يصنعوا من أنفسهم ويصنعوا من منتسبي شركاتهم ومرؤوسيهم صقورا تحلق في الأفاق الرحبة وتكسب رزقها ورزق الجميع معها بمهارة وجدارة وسمو، لا أن يصنعوا ديكة متناقرة وأفراخ ملونة غير قابلة للنمو، أن يصنعوا خبراء مهنيين وإداريين وقيادات تنفيذية، لا أن يصنعوا مدراء تسيير أعمال وقيادات تشغيلية، وكفاءات متقادمة تجاوزها العصر والعالم.
أما لماذا ذلك، فللأسباب والاعتبارات الآتية: التركيز على المسار المهني في مساق النمو الوظيفي يتوافق مع طموح الجميع سواء من يمتلك مهارات إدارية وقيادية أم لا، ومطلوب من الجميع سواء من سلك مساق الإدارة أو المساق المهني، كما أنه في تحقيق النمو الوظيفي والترقي. يساعدك المسار المهني على النمو المستمر بحسب قدراتك ومهاراتك. التركيز على الجانب المهني في مساق النمو الوظيفي يجعل منك كفاءة متميزة وغير قابلة للاستبدال، كما يمنحك فرصا أوسع وأفضل في أماكن أخر. 5) عندما تتحول إلى خبير في مجال تخصص بمهارات وجدارات حديثة ذات قيمة تنافسية عالية يمكنك من خلالها التنافس على أفضل الوظائف وأعلى المناصب في كبرى الشركات الاقليمية والدولية سواء أكان بدوام كامل أو بدوام جزئي، كما يمكنك العمل الحر وعرض خدمات عبر مواقع ومنصات مختصة تؤسس لنفسك فيها اسما وعلامة تجارية، كما أنك تكون أكثر قدرة لبناء مشروعك الخاص ولو بعد حين 7) التحولات المتسارعة في فكر ومنطلقات الادارة والتوظيف واسواق العمل والتدريب فلم يعد هناك ما يسمى بالولاء والانتماء والاحتفاظ بالكفاءات بل العكس صحيح فقد بدأت الشركات العالمية تتخلص من أفرادها متوسطي الكفاءة واستبدالهم بذوي كفاءات مهنية أعلى مقابل رواتب عالية، كما ظهرت مفاهيم وممارسات وتطبيقات اتصالية حديثة تؤسس للعمل عن بعد والدوام الجزئي وشراء الخدمات أكثر من التوظيف الرسمي والدوام الكامل.
لذلك سأظل أؤكد على شبابنا وأرباب الأعمال والمديرين في بيئة الأعمال العربية اصنعوا من انفسكم ومن منتسبيكم خبراء لا مدراء، لا تنشغلوا بعرف الديك شجعوا الناس على امتلاك الخبرة والمهارة والجدارة المحدثة والمواكبة دوما، لا الألقاب والمناصب والقيم المادية والعائد قبل امتلاك الخبرة وبناء الكفاءة وتعزيز التنافسية المهنية بمستوى عالي ومواكب.
نقلا عن مجلة ريادة الأعمال
-->