لا تقاس الدول من خلال الشخوص المتربعين هرم السلطة من أين هم؟ من أين جاءوا؟ ماهي الأعراق التي ينتمون إليها تقاس من خلال مؤسساتها المدنية، العسكرية والأمنية الضامنة لخدمة الإنسان وحماية سيادة الأوطان..
بعد التدهور الأمني والاقتصادي اللذان رافقا حكومة القاضي عبد الرحمن الارياني الذي جاء على إثر الإطاحة بالرئيس السلال أول رئيس للجمهورية في الخامس نوفمبر 1967م الحكومة التي قال عنها لاحقاً الفيلسوف أبو بكر السقاف في كتابه " الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي"
قال "الفوضـــى التـــي رافقت حكـــم الارياني لـــم يســـتطع الحكم أن يتخلص منها إلى يومنا هذا، فهي والفســـاد لا يرتبطان بأشـــخاص الحاكمين، بل بانتمائهـــم الاجتماعي، والمؤسســـة القبلية ورجالها مـــن القضـــاة والضبـــاط لا يرقـــون في ظـــل علاقاتهم بحكام الســـعودية حينها إلى مســـتوى القدرة علـــى بناء دولة حديثـــة، مركزية ً متماسكة تملك ترتيباً واضحاً للأولويات والأهداف فهذا كله يناقص أسس تصور الحكام للدولة والسلطة" انتهى الاقتباس..
الانقلاب الذي قادته القبيلة ورموزها ضد السلال على إثر اتهامات باطلة وفوضى عارمة هم من أحدثها وأصَّل لها كما ذكر السقاف، تعثرت خطى الارياني في التصحيح تعسرت الأوضاع وعجز عن إحداث أي تغيير لبنا دولة مدنية فاعلة بسبب استمرار الفوضى وشيوع الفساد..
على إثرها نادى بعض شيوخ القبائل على رأسهم مجاهد ابوا شوارب باستبعاد الارياني وتولية يحي المتوكل رئيساً للجمهورية خلفاً له، اعترض عبدالله الأحمر المقترح بتعِلَة أن المتوكل سيُعيد حكم الإمامة من خلال تمكين رموزها من مفاصل الدولة وحرف مسار الجمهورية وهو على علاقة نسب وصهر معهم..وفي تقدير كاتب السطور أن اعتراض الأحمر لم يكن خوفاً على الجمهورية بل لعدم تطابق مصالحه وداعمية مع تصور توجه المتوكل في تسيير شون الدولة وتحجيم سلطة القبيلة الحارف لمسار الدولة..
ولإدراك حاملي نقيض الفكرة أن شيوخ القبائل وممثلي الطائفة لم يرتقوا بفكرهم إلى مستوى فهم مصالح الشعب وسيادة الوطن، وأنهم ليسو جديرين بحمل فكرة بناء الدولة لتواضع فهمهم لعلوم السياسة والإدارة والاقتصاد، بل قاموا بمحاربة كل مبدع بدا متحمساً للمساهمة في صناعة القرار السياسي والاقتصادي وحتى التعليمي، بل سيكونون له بالمرصاد، لأن التعليم في مفهومهم سيرتقي بعقلية الفرد ويلقي سلاحه جانباً ويتجه إما للبحث عن وظيفة أو إلى الحقل أو إلى سوق الاستثمار، وأنى لهم بعد ذلك حشد بشري يتكؤون عليه لاثبات وجودهم وتدخلهم في شؤون الدولة والعباد..
وما ينطبق على الشمال في هذا السياق ينطبق على الجنوب إلى حدٍ ما لأنا رأينا التدخل القبلي في الصراعات البينية بين أجنخة السلطة الضالع ويافع وردفان من جهة، وأبين وشبوة من جهةٍ أخرى..
حزم الحمدي أموره وانقلب على الارياني بتنسيق مسبق مع القبيلة وداعميها، بحزمة شروط اشترطوها عليه، غير أنه واجه صعوبة في تنفيذ تلك الشروط المخالفة لأسس بناء الدولة، فاتجه إلى الشعب خاطب فيه روح الثورة وبدأ يوسس لبناء دولة على قواعد دستورية وقانون يحمي الجميع، تُسبغ خيراتها على ربوع الوطن، اصطدم بالقبيلة التي رفضت نزع أنيابها من جسد الحكومة جيشها ومؤسساتها وأبت الذوبان في كيان الوطن والشعب، اتجه إلى المكونات المدنية وركب حصان القومية علها تنجيه من موج محيطه الذي كان يعج بالفوضى ويتشح بالعصبوية الهادمة..
تظافرت جهود خصومُه، اغتالته واغتالت مشروع بناء الدولة المتمثل بشخصه وفريق حكمه، جاء الغشمي يحمل بجرابة مفهوم بناء دولة القبيلة التي ستستمر لمأتي عام وفقاً لما أعلنه الأستاذ يحي أبو اصبع في برنامج ساعة من التاريخ، لحق الغشمي بصاحبة قبل أن يُكمل العام.. وقع اختيار الشقيقة على علي صالح خلفاً له وبعد رفض كل المكونات السياسية بما فيها شيوخ القبائل وعلى رأسهم عبدالله الأحمر بدايةً، خوفاً من عودة حكم العساكر وإقصاءهم من المشهد كما فعل الحمدي، حد ما صرح به الاستاذ يحي ابو اصبع على نفس البرنامج..
نقضت زيارة الشيخ الأحمر للشقيقة تحالفه مع كل القوى المدنية الرافضة لتولي صالح وقال بعد عودته من تلك الزيارة بحسب رواية محمد عبدالله الفسيل أن المرحلة بحاجة إلى رجل عسكري ليضبط إيقاعها، ويبدو أن المعضلة في نظر المذكور هي خوفه من قيام دولة تُحيد القبيلة وتقيد تدخلها في سير مؤسسات الدولة وتنفيذ مهامها، لأن قيام دولة حقيقية كفيلة بوقف نزيف الفوضى وفساد المواليين للقبيلة في صلب السلطة، وهذا ما أدركته الحركة الحوثية وأول ما بدأت بقتلهم قمعهم وتحييدهم عن التدخل في شأن الحكم عدى كونهم حاشدي المقاتلين وصانعي الكعك وجامعي التبرعات لرفد الجبهات ..
قلق لازال حتى الساعة يساور الكثير من الساسة والمكونات السياسية من عود تسلط المكونات العتيقة ونشر الفوضى واستشراء الفساد سيما وممثليها لازالوا على حالهم تحديداً في جبهة مأرب، وعودة مفهوم حق انحصار السلطة في مكون تقليدي على أسس جهوية أو مذهبية بعد التحرير من الاحتلال الحوثي، وعود السيناريو الذي أعقب ثورة السادس والعشرين من سبتمبر والتخلص من كل ثائرٍ شريف بذل حياته فداءً للوطن..
ومن ثم هل كان تولي يحي المتوكل لرآسة الجمهورية إذا ما صح خلفاً للإرياني وهو يعمل ضمن مؤسسات دولة تدرك مهامها وتعمل في فضاء الجمهورية؟ سيفعل ما فعله صالح من تمكين القبيلة ورموز الإمامة والتغلغل في كل شريان من شرايين الجمهورية وإتاحة الفرصة لعودة مفهوم الولاية الذي تجاوز مفهوم الإمامة وسيفعل باليمن ما فعله شبق السلطة الفوضوي في اليمن بعد كل فيض الدماء وزكوات التضحيات؟؟
مجرد أسئلة تؤرق الكاتب في الزمن الأعمى الذي غامت فيه الرؤية وتفككت في جوانبه الصفوف الجمهورية..
-->