المودة في القربى والتدليس الإمامي (2-2)

توفيق السامعي
الأحد ، ١٩ فبراير ٢٠٢٣ الساعة ٠٤:١٥ مساءً

 

سياق الآية واضح في نفي القرآن على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يتقاضى أجراً في مقابل دعوته؛ فالجزء الأول من الآية (لا أسألكم عليه أجراً) ينفي كل تقول في ثمن مقابل لدعوته، وما جاء من الاستثناء الوضوح في أن عمله ذلك خالصاً لوجه الله ولأنهم أقاربه وعشيرته يخاف عليهم مصائر الأقوام السابقة إن هم كذبوه كما جاء في سورة فصلت (فإن تولوا قل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود...)، وكذلك كما جاء في الجهر بالدعوة بعد السرية (وأنذر عشيرتك الأقربين)؛ فالقرآن يدعم بعضه بعضاً ويفسر بعضه بعضاً، وغالبية الآيات في الأجر والقرابة تثبت هذه القضية وهي عدم تقاضيه ثمناً مقابل دعوته كبقية الأنبياء من قبله. ونجد أن أوضح آية في هذا السياق التي توضح عدم اتخاذ النبي - صلى الله عليه وسلم- أجراً مقابل دعوته هي آية سورة سبأ، وهي قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}( )، رغم أن بقية الآيات واضحات أيضاً. وبالعودة إلى الأقوال في تفسير هذه الآية عند بعض المفسرين، نجد للواحد منهم قولين متضادين، كما عند عكرمة وقتادة ويونس مثلاً القائلين بصلة قرابة النبي وحفظه في قرابته، ثم يقول القول الآخر وهو تبليغ الدعوة نظراً للمودة والقرابة التي بين النبي وبينهم، وكذا فعل ابن عباس الذي ترجع إليه بعض هذه الأقوال في صلة قرابته مقابل الدعوة، وربما كان هذا من فعل الرواة، وعلى هذا الرأي يكون النبي قد تقاضى أجره في الدنيا، وحاشاه ذلك، وهذا تحيز واضح من ابن عباس كونه ابن عم النبي، أو من بعض الرواة، ومن الطبيعي أن ينحاز إلى هذا الرأي والقول الذي لم يُروَ عن أحدٍ من كبار الصحابة. فمعظم أقوال المفسرين والرواة عن هذه الآية تذهب إلى القول "نظراً لما بيني وبينكم من المودة والقربى". لكن وللأمانة العلمية فقد تتبعنا معظم الروايات عن ابن عباس وهي تقول بالقول العام (لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) نظراً لما بيني وبينكم من القرابة والرحم، وأنتم أحق وأولى أن تطيعوني وتتبعوني للقرابة والمودة التي بيني وبينكم، وليس كما قيل عنه "مقابل أن تحفظوني في قرابتي"؛ فهذا من تدليس الشيعة.  فمثلاً نسب لابن عباس من القول الأول: "إلا أن تودوا قرابتي من بعدي"( ). وكذلك القول السابق الذي ذكره ابن كثير وفنده، قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا رجل سماه، حدثنا حسين الأشقر، عن قيس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي}( )، قالوا يا رسول الله: من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟، قال: فاطمة وولديها - عليهم السلام". هذا إسناد ضعيف، فيه مبهم لا يعرف عن شيخ شيعي متخَرِّق، وهو حسين الأشقر، ولا يقبل خبره في هذا المحل. وذكر نزول هذه الآية في المدينة بعيد؛ فإنها مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولاد بالكلية، [بل لم تكن قد تزوجت علياً في ذلك الزمن] فإنها لم تتزوج بعلي إلا بعد بدر من السنة الثانية للهجرة"( ). 

القول الثاني:   لقد نزلت الآية على النبي - صلى الله عليه وسلم- في مكة وهو يدعو قومه ويحاججهم قبل مولد ابن عباس بفترة من الزمن؛ وقبل زواج علي بفاطمة ناهيك عن مولد الحسن والحسين اللذين يحتج بهما الشيعة، فقد ولد ابن عباس عام الهجرة، فقال: "توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن عشر سنين"( )، أي أنه لم يعلم سبب نزول الآية ولا ظروفها في نفس اللحظة، وهنا فإن رأي كبار الصحابة مقدم على رأيه بكل تأكيد. وما ورد عن أبي بكر - رضي الله عنه- في البخاري "أرقبوا محمداً - صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته"( )، وقوله لعلي وفاطمة: "لقرابة النبي أحب إلي من أن أصل قرابتي"( )، هو قول عام في الصلة الطبيعية والإحسان إلى أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم- كلهم وأولهم نساؤه - صلى الله عليه وسلم- كما هو مفهوم الآية في أن أهل النبي هن زوجاته كون خطاب الآيات واضحاً فيهن من أول آية خطاب وحتى آخر آية، ولكونهن بقين دون راعٍ بعده وهو المؤسس الأول للدعوة والحكم، لكن ليس على سبيل الاختصاص والتمييز عن سائر الناس بإسقاط الآيات في غير مواضعها، ليتميزوا عن غيرهم استعلاءً وثراءً! وقد قال أبو بكر هذا الكلام لعلي وفاطمة حينما جاءا يسألانه ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم- من مال خيبر، وهو الخمس الذي كان خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم- كما في الآيات لا كل الأموال؛ لأنه كان في الأساس قد وزع عليهم تلك الأموال في حياته، كما قسم لغيرهم من المسلمين، وكلٌ أخذ قسمه ونصيبه من تلك الأموال، لكن أبا بكر رفض في خُمس النبي وقال لهما: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: نحن معشر الأنبياء لا نورث..ما تركناه صدقة"، وخمس الرسول هنا عائد للدولة، وقد أعاده أبو بكر لخزانة المسلمين؛ فالنبي كان يمثل رأس الدولة ويحتاج أكثر من غيره للأموال لأنه يوزعها على السائلين له الطالبين معونته في النفقة ويتألف بها قلوبهم، ولا يتم توارث هذا الخمس بين الأقارب، وبالتالي يؤول إلى ولي أمر المسلمين كون مطالبه ستكون كثيرة تتطلب إبقاء بعض المال في يده لينظر في استعماله في أوجه وأنشطة أمور المسلمين العامة. وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا، إلا الخمس، والخمس مردود فيكم"( ). ومن هذا الحديث نستشف أن خمس النبي - صلى الله عليه وسلم- الخاص به يعود صرفه على المسلمين عامة، ولا يتم وراثته ولا تقاسمه بين أقاربه.  وهذا يوضحه تفسير أبي بكر الآتي ذكره، وكيفية تقسيمه، وأن آل محمد فقط يأكلون منه بقدر حاجتهم ولا يزيدون عن ذلك. لم يقتصر أمر طلب الميراث من علي وفاطمة والعباس فقط، فقد أرسلت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر يسألنه ميراث النبي، فردتهن عائشة - رضي الله عنها. فقد روى عبدالرزاق [الصنعاني] عن معمر عن الزهري عن عروة وعمرة قالا: إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم- أرسلن إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت إليهن عائش: ألا تتقين الله؟! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نورث، ما تركنا صدقة؟! قال: فرضين بما قالت، وتركن ذلك"( ). اقتنعت نساء النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وهن أولى بميراث النبي من علي والعباس؛ كونهن نساءه، ودون عائل، ولهن الميراث الأكبر بعد فاطمة، وأحق من يصرف عليهن، ولذلك كانت وصية النبي بهن في حديث "أذكركم الله بأهل بيتي" الذي كرر هذه العبارة ثلاث مرات! لذلك نجد أبا بكر يبرر الصرف عليهن من نفس المال الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم بحسب حاجتهن، فقال أبو بكر: "إنما يأكل آل محمد من هذا المال – يعني مال الله- ليس لهم أن يزيدوا على المأكل.."( ).   كما إن علياً وفاطمة - رضي الله عنهما- لما يتزوجا بعد عند نزول هذه الآية؛ فقد تزوجا في المدينة في السنة الثانية للهجرة، وهذه كلها دلائل على عدم اختصاص الآية بأقاربه صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا القول ما فعله أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما- مع علي وفاطمة بأنهما لم يميزاهما عن سائر الصحابة في المال والمعاملات.   بمراجعة تأويل هذه الآية على أن المقصود بها موالاة أو مراعاة قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم- سنجد أن مصادر هذه الأقوال والتفسيرات شخصيات من ذرية علي بن أبي طالب أو شيعية، وكلها لها أهداف سياسية على أساس من الولاء والاتباع للشيعة، أو شخصيات سنية بأسانيد فيها نظر عند المحدثين. فمثلاً ما رواه الطبري قال: حُدِّثتُ عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، يعني قريشاً. يقول: إنما أنا رجل منكم، فأعينوني على عدوي، واحفظوا قرابتي، وإن الذي جئتكم به لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى، أن تودوني لقرابتي، وتعينوني على عدوي"( )، على الرغم أن هذا القول أيضاً يدحض أقوال الشيعة الصريحة في موالاة ومودة قرابة النبي دون سائر المسلمين وهي الولاية العامة أو الخاصة، وإنما تكون موالاتهم كموالاة بقية المسلمين؛ فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}( ). وكذلك ما قاله الطبري أيضاً حدثني محمد بن عمارة، قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، قال: ثنا الصباح بن يحيى المزني، عن السدي، عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين - رضي الله عنهما- أسيراً، فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، وقطع قرن الفتنة. فقال له علي بن الحسين: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: أقرأت "آل حم"؟ قال قرأت القرآن ولم أقرأ "آل حم"!، قال: ما قرأت {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؟، قال وإنكم لأنتم هم؟! قال: نعم"( ). كما روى الطبري أيضاً قال: "حدثني يعقوب بن إبراهيم، ثنا مروان، عن يحيى بن كثير، عن أبي العالية، عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، قال: هي قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم"( ). وكذلك قال الطبري: "حدثني محمد بن عمارة الأسدي، ومحمد بن خلف، قالا: ثنا عبيد الله قال: أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق، قال: سألت عمرو بن شعيب عن قول الله -عز وجل: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، قال: قربى النبي صلى الله عليه وسلم"( ). لكننا نجد الأقوال السابقة نزراً يسيراً مخالفة للأغلبية الغالبة لتأويل المفسرين والصحابة والتابعين كذلك عن هذه الآية التي تذهب إلى القول العام وهي: أن المقصود بالمودة بالقربى هنا لما لبين النبي وقريش من القرابة، وأنه لا يسألهم على دعوته أجراً إلا مودتهم للقرابة التي بينهم وبينه وينصحهم وهو يريد لهم الخير ومباعدتهم عن النار وإنقاذهم منها بهذه الدعوة التي أرسل بها إليهم، بدليل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}( ).  ونجد حتى بعض علماء الشيعة في كتبهم المشهورة والمعتمدة يعترفون أن النبي صلى الله عليه وسلم يتبرأ من أية روابط بينهم إلا رابط التقوى، وهو الأمر المعروف والمروي عند علماء السنة وكتبهم المعتمدة الصحيحة. فقد جاء في الروضة من أصول الكافي، أهم أعمدة كتب الشيعة: "[روى] عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فقال: يابني هاشم، يابني عبدالمطلب، إني رسول الله إليكم، وإني شفيق عليكم، وإني لي عملي، ولكل رجل منكم عمله، لا تقولوا: إن محمداً منا وسندخل مدخله، فلا والله ما أوليائي منكم ولا من غيركم، يابني عبدالمطلب إلا المتقون، ألا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم، ويأتون الناس يحملون الآخرة، ألا إني قد أعذرت إليكم فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين الله -عز وجل- فيكم"( ).

الحجر الصحفي في زمن الحوثي