موسى اليمن وفرعون العصر .. نبوءة زوال الإمامة!

توفيق السامعي
الجمعة ، ٠٧ اكتوبر ٢٠٢٢ الساعة ٠٦:١٤ مساءً

من أشهر ما يروى في قصة فرعون وموسى أن المنجمين قالوا لفرعون إن زوال ملكه على يد غلام من بني إسرائيل؛ ولما سمع فرعون تلك النبوءة فزع وقام على الفور بذبح كل مولود ذكر وطفل من بني إسرائيل حتى يحفظ ملكه من الزوال. كانت إرادة الله نافذة، والله يحكم لا معقب لحكمه؛ إذ جعل فرعون يتولى بنفسه تربية الغلام الذي سيزيل ملكه في حجره، وقربه إليه وتبناه ليكون ابناً له. مرت السنون وإذا بالغلام يكبر ويعود إلى فرعون بعد تهجيره مرسلاً رسولاً من عند الله ليشرع في إزالة ملك الفرعون الذي سام الناس سوء العذاب فذبًّح أبناءهم واستحيا نساءهم، وبدأ بتغيير عقيدة الناس وزراعة الحرية في أنفسهم ليتمردوا على فرعون ويتبعوا موسى ويفلق بهم البحر، ويغرق فرعون وقومه، ليزول ملكه إلى الأبد {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}الأعراف137 لم تكن تلك القصص ضرباً من الأساطير أو مقتصرة على زمن من الأزمنة الغابرة، أو لتكون فقط مع الأنبياء والرسل وحدهم؛ فقد تكررت معنا في اليمن في فرعون العصر الحديث الطاغية الإمام أحمد حميد الدين. يذكر لي مصدر موثوق أن ولي العهد أحمد حميد الدين في بداية الأربعينيات وهو وقت كان التنجيم شائعاً في اليمن، كان أمر المُلْك شغله الشاغل مع بداية ظهور الأصوات التي تنادي بالإصلاح الحكومي والدستوري في اليمن وجمعية الإصلاح التي أسسها الأحرار في اليمن كالزبيري والإرياني والنعمان والحروي وعبدالغني مطهر وغيرهم، وهي الأصوات والشخصيات التي حاولت إصلاح الوضع والحكم مع ولي العهد حينذاك السيف أحمد واستمالته إليهم، وإخراج اليمن من ظلمات التخلف والانغلاق إلى نور الحرية والعلم والانعتاق، واستطاع أحمد "ياجناه" خديعة أولئك الأحرار ليعرف ما وراءهم ومن يقف من خلفهم، وما هي أجندتهم، وانقلب عليهم وضيق عليهم الأرض بما رحبت اضطرهم ذلك التضييق إلى الفرار منه إلى عدن، ومن هناك واصلوا نضالهم وتبنيهم الثورة التي لا يصلح الحكم إلا بها. سأل أحمد حميد الدين المنجمين عن مآلات ومصير الإمامة ومملكة بيت حميد الدين، فقيل له إن زوال ملكه على يد رجل اسمه عبدالله! فكر أحمد حميد الدين وقدر، ثم فكر وقدر، وأخذ يجول ويستعرض في خاطره كل الشخصيات في تعز التي تحمل اسم عبدالله ومن منها يمكن أن تكون المؤهلة لذلك ليتخلص منها قبل أن تتحقق تلك النبوءة! بعد جهد جهيد ذهب به تفكيره وعقله بعد أن سأل عن كل تلك الشخصيات الوازنة والتي تحمل هذا الإسم وما عمقها التاريخي في البلد، فكانت النتيجة أن توصل إلى شخص اسمه عبدالله بن محمد حسان، وكان ربما حينها أكبر الشخصيات المشيخية ذات الثقل الشعبي في تعز؛ عرف بالذكاء والقوة والثراء والوزن الاجتماعي والعمق الشعبي في البلاد، ولم يدر بخلده مطلقاً إسم عبدالله السلال الذي كان في عمق القصر الإمامي. فمن هو عبدالله بن محمد حسان؟! في تاريخ الدولة الرسولية كان الملوك الرسوليون يتخذون من أسرتين أو قبيلتين في اليمن قضاة ووزراء؛ كون الأسرتين فيهما من العلم والتصوف ما تفوق كثيراً من الأسر اليمنية وخاصة في تعز وإب. هاتان الأسرتان هما بنو عِمران من أعمال السياني والمذيخرة من إب، وبنو حسّان، وكان القضاء والوزارة لا تخرج عن هاتين الأسرتين إلا قليلاً. تدور الأيام وتتقلب السنون، ويرث بنو حسان بني عمران فتترسخ أقدام بني حسان في المكانة الروحية والصوفية في تعز حتى في بداية عهد الدولة الطاهرية تقريباً، ويستمر الإرث العلمي والبيت الصوفي والزهد الديني في تلك الأسرة حتى جاء الأئمة وبدأوا ينكلون بكل ما له صلة بتلك الدولة انتقاماً طائفياً ومناطقياً وقبلياً منذ عهد المطهر بن شرف الدين وحتى آخر الأئمة أحمد حميد الدين. سلك أحمد حميد الدين، بكل سطوته وجبروته، كل مسلكٍ للإيقاع بعبدالله بن محمد حسان واستدراجه إليه. كان بنو حسان، وعلى رأسهم عبدالله، هذا قد تشعبوا في تعز في كلٍ من شرعب وجبل حبشي والمخاء ومقبنة والوازعية وصبر وغيرها، فامتلكوا مساحاتٍ شاسعةً من الأرض، وشاركوها مع رعيتهم من المواطنين الذين صاروا يجبون إليهم الأموال الطائلة، حتى صارت أغنى بيوت تعز مالاً وعقاراً تقريباً، هذا فضلاً عن مكانتهم وقداستهم الروحية لدى المواطنين؛ فهم أسرة صوفية جيلاً بعد جيل، وهي عوامل مخيفة لكل حاكمٍ مستبد ولا شك؛ فهي مقومات الدول وحجر أساسها لو أرادت تلك الأسرة أن تمضي في بناء دولة من الصفر، ولا ينقصها الحكمة ولا الروية والتخطيط السليم الذي كان يتمتع به شيخهم عبدالله ذاك. حاول أحمد حميد الدين استدراج عبدالله بن حسان إلى قصره في صالة، فرفض الحضور لما علم أنه يطلبه ليمكر به. وبما أن هذه الأسرة ثرية ثراءً فاحشاً بمقاييس تلك الأيام، كان لعبدالله بن حسان "جنبية" تطير شهرتها الآفاق وتعرف ب"المبروقة"، حاول أحمد حميد الدين الحصول عليها بكل ما أوتي من قوة؛ لأن الأئمة كانوا لا يسمعون عن نفائس أموال اليمنيين حتى يعملوا كل الحيل لسلبها منهم؛ إذ لا يجوز أن يكون أحد رعية الإمام متميزاً عن إمامه بشيء من الجاه أو المال أو التحف أو أي شيء مما يتميز به الإنسان. كانت هذه الجنبية مطمع كلِ من سمع بها، ولما فشل أحمد حميد الدين الحصول عليها بشتى الطرق جرد حملة عسكرية إلى قرية عبدالله بن حسان ليأخذها منه بالقوة ويأتون به مكبلاً بالحديد! لما علم عبدالله بن حسان بعزيمة السيف أحمد حميد الدين بأخذه بالقوة، وأن لا مفر منه، استطاع عبدالله الفرار بجنبيته من المخاء حيث له عمق شعبي هناك، ومن ثم الرحيل إلى جيبوتي والاستقرار هناك. لم تنته القصة هنا، ثمة أسرار أخرى؛ فالطاغية الظالم ساءه فرار عبدالله ما كان منه إلا أن أخذ والده محمد بن حسان بدلاً منه حتى يأتيه بابنه، واقتاده بالسلاسل والحديد إلى سجيناً ورهينة ومعتقلاً سياسياً بعد ذلك في سجن حجة. وفي سجن نافع بحجة هناك قبع الأب إلى جانب الأحرار الدستوريين الذين شملهم اعتقال الإمام يحيى حميد الدين بعد انكشاف أمر جمعيتهم "جمعية الإصلاح" المنادية بالإصلاح الدستوري، فسجن إلى جانب القاضي الإرياني وأحمد المطاع والموشكي وعبدالوهاب النعمان وغيرهم. في ظلمات ذلك السجن، كما يقول أحد رفقاء محمد حسان من الأحرار الذين سجنوا معه، أن ذلك الرجل كان متديناً وزاهداً وذا صلاح كبير واضح من سَمْتِه وعبادته، وكان يقوم من الليل فيدعو على الظالم يحيى وابنه أحمد حتى توفي في سجن حجة عام 1947، ولم يلبث أقل من عام حتى استجيبت دعوته ولحقه الطاغية يحيى حميد الدين بأيدي الثوار في حزيز فبراير عام 1948م. في الوقت الذي كان عبدالله بن حسان يعيش في جيبوتي كان موسى فرعون الجديد – عبدالله السلال- يتربى في قصر الإمام؛ الحاكم الطاغية المستبد كقائد للحرس الخاص للإمام، وتصنعه الأقدار للإطاحة بعرش الطاغية الفرعون الجديد، ولم يكن يدر في خلد الإمام أحمد أنه المعني بالنبوءة وليس عبدالله بن حسان؛ فقد كانت ثقة الإمامة بالسلال كبيرة لا تزعزعها الأعاصير على الرغم أنه سجن بعد ثورة 1948 لتسرب اسمه ضمن الثوار على الإمام. كانت إرادة الله غالبة، وكانت البصائر عمياء أمام مقادير الله لم يتنبه لها الإمام الطاغية الجديد أحمد حميد الدين، وقد قيل: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقَدَره أذهب من ذَوِي العقول عقولهم! كان السلال - رحمة الله عليه- في كل مواطن التخطيط للثورة، وكان يرعى الخلايا الثورية مع أستاذه وقائده الشهيد جمال جميل وهو في القصر، ويخرج للقاء الثوار وتنظيم الضباط الأحرار في كل البيوت التي اتخذوها مقاراً لمخططاتهم الثورية رغم أنه خرج من سجن نافع بحجة بعد اتهامه بالمشاركة بالثورة، وعاد مرة أخرى إلى القصر. الشاهد في الأمر أن الطاغية أحمد حميد الدين، كما هو حال الأئمة في كل زمان وكان، كان لا يتورع عن سلب المواطنين أموالهم وأهم ما يمتازون به عن الناس، كما يفعل الحوثة (الإمامة الجديدة اليوم) من سلب ونهب أموال الناس بالباطل ويصادرونها لأنفسهم. ويتمثل الشاهد الثاني في أن الإمامة اعتمدت على التنجيم والخرافات التي تميزت بها، ولم تعمل على بناء العلم والمعرفة وبناء المؤسسات العلمية التي تقوم الدولة على أساسها بعيداً عن الهرطقات الغيبية والتنجيمية، وإن لنا موسى جديداً واجه الفرعون الحديث، وحري بكل جمهوري اليوم أن يكون موسى في ذاته ليواجه الجبروت والظلم الإمامي ويعمل على إزالته كما أزيل من قبل.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي