ميدان التحرير ( 2 )

مجلي الصمدي
الاربعاء ، ٠١ يونيو ٢٠٢٢ الساعة ٠١:٢٣ مساءً

من على طاولتي الحديدية بباب مكتب البريد بميدان التحرير والتي جلست خلفها قرابة عشر سنوات بإمكانكم في الجزء الثاني هذا معاودة التجوال معي في هذا الميدان ومحيطه المليئ بالحياة والتفاصيل والوجوه والاسماء والأجناس والباعة المتجولين ..

للعلم كان الميدان وماحوله من مداخل وأحياء صغيرة وأسواق كان كله ترابيا ( اذا لم تخني الذاكرة)!!.. ولم يكن مسفلتا سوى شارع علي عبده المغني .. لكن اعمال السفلتة كانت قد بدأت. على أيدي عمال صينيين كان يعملون بجد والتزام وانتظام ومهارة فائقة ..كنا نراهم منتشرين وعلى رؤسهم قبعات مربوطة إلى أعناقهم تشبه القبعات النخيلية التهامية..وبجانب كل واحد منهم علبة زجاجية متوسطة ممتلئة بالشاي البارد..

كانت أشكالهم المتقاربة تثيرنا كأطفال..وكنا نشاكسهم بمحاولة الإقتراب منهم واسماعهم كلمة حفظناها ولاندري معناها.. كلمة ( صيني بلله) كنا نشعر أنها تضايقهم .. وكانوا لايرتاحون لسماعها..

استغربت ذات صباح رمضاني وهم يواصلون عملهم ويشربون الشاي دون اكتراث..

دعونا نكمل جولتنا في الميدان ومحيطه..

كانت أفضل المطاعم ثلاثة إلى أربعة :

مطعم وضاح وفاصوليته الشهيرة .. ومطعم فلسطين القريب من سينما بلقيس.. ومطعم التيسير عند مدخل التوجيه المعنوي بداية شارع ٢٦ سبتمبر وامامه يتموضع خياط جنيف الشهير.. وأمام البنك اليمني للانشاء للانشاء والتعمير توجد شجرة كبيرة وكثيفة وفوق الشجرة وبشكل طولي منزل لم اعد أتذكر هل هو من الخشب ام غير ذلك ( شكله مثل المحراسة ) ومكون من دورين أو ثلاثة.. الدور الاول بوفيه يعصر فيها ليم واللي فوقه سكن عائلي..

وبالقرب من البنك ومقابل مدخل باب السباح قبة المتوكل الشهيرة وخلفها حمام بخار عتيق ..

كنت اشاهد المقرئ الراحل محمد حسين عامر والحليلي..

وكانت تنبعث روائح حريق كريهة من حمام البخار المجاور نتيجة استخدامه مخلفات المجازر كالعظام كوقود لتسخين الحمام..

وامام المسجد كان يجلس في الصباح وحتى الظهيرة رجال وامامهم كراتين وفوقها ورق بياض ومع كل واحد مظلة مثبته للوقاية من الشمس وهؤلاء يكتبون للناس الشكاوى القضائية..والمحررات الاخرى كالوكائل أو السندات..

كانت الحياة تدب مبكرا في ميدان التحرير ..

وكان حظي أنني أعمل فيه واسكن بالقرب منه ببستان السلطان وادرس في جمال جميل واشاهد مباريات الدوري بملعب الظرافي واشتري بضاعتي من المؤسسة العامة للسياحة التي كان مقرها واقعا بين مدخلي مجلس الشعب التأسيسي ( البرلمان) والسجن الحربي في أول طريق البونية وكان مديرها شخصا طيبا ومثقفا وأنيقا اسمه مطهر الحيفي..

وفي هذه المؤسسة تحرشت بي( بلطف) موظفة من حق تعز كانت معاملتي تمر من عندها وأغلقت الباب.. على أساس أنها تشتي تكلمني بحاجة مهمة هههه .. كنت اشتري الكروت السياحية من تلك المؤسسة وبسعر مشجع.. وقد أصبح هذا المبنى في الألفية خاص بالتراث أو مدري ايش المسمى وكانت تديره الدكتورة الراحلة روؤفة حسن ..

كما كنت اشتري بضاعتي من مكتبة الشبامي اللي خلف شارع المطاعم.. كان سعره افضل من الجيل الجديد..

وشارع المطاعم آنذاك لم يكن فيه سوى بوفية( الحاج)

والبوري.. وكان محلات احمد سعيد للبيع بالجملة هي الأشهر خلف شارع المطاعم.. اما مدهش فلم يكن آنذاك سوى مقوت شهير لبيع القات السوطي مثله مثل أصحاب ماوية جميعهم يبيعون القات السوطي.. ويعرعرون بشكل ملفت..

كان تحركي دائريا..

وكان عملي بالبريد يبدأ عصرا حتى الثامنة مساء ..وكنا تتنافس انا وآخرين كانوا يمارسون نفس المهنة وهم: الحاج يحي المطري ..وهو الأقدم . يليه احمد الخولاني.. ثم واحد من حجة اسمه علي شوعي مفرح .. وآخر من المحويت اسمه عبد الكريم سعود العجل .. كنت انا آخرهم وزقيت عليهم المهرة لاستحداثي بيع اشياء جديدة لم يكونوا يبيعونها واقوم ببيعها أنا...

يحي المطري الأكبر سنا والاقدم والاكثر غلظة لكن مع الايام كسبت قلبه وعزمني إلى منزله في الصعدي ودخلت بنته الشابة العشرينية الجميلة نادية وهي ممشطة شعرها وفي كامل أناقتها وعاملة احمر شفاه.. عرفني عليها حيث لم يكن لديه أولاد ذكور وكانت هي بمقام ولية عهده.. وانا طفل وفي مكانة إبنه...

احمد الخولاني بائع اخر وكبير بالسن لكنه أكثر وعيا ومهتم بالقراءة ومتابعة الصحف وقراءة المقالات والافتتاحيات ..أرشدني ذات يوم كيف افهم مايجري من أحداث بأن اقرأ كلمة الصحيفة أو المجلة. أو افتتاحيتها.. وكان مدخن وصاحب مزاج يخزن بإخلاص وشغف ويترك القات يوم يومين ثلاث.. لكننا كنا نتجنبه عندما لايكون مخزنا حيث يكون حادا وعنيفا.. لكنه في الاجمال طيب القلب .

.. سنعود للزملاء ..

إنما دعونا نعمل لفة جديدة في ميدان التحرير..

في شارع علي عبد المغني وتحديدا بالقرب من معرض الفصول الأربعة وأمام مخزن غزة لبيع مواد البناء كان يوجد مطعم اسمه ( مطعم رداع) صاحب المطعم يمني من رداع لكن مولد فيتنامي وكان أكله لذيذ جدا وابن صاحب المطعم. زميلنا في مدرسة جمال جميل واسمه فايز شريف وكان قوي ورياضي ومفتول العضلات ..كان يعزمنا أحيانا نتغدى بلاش في المطعم حق ابوه ..

...كان البريد من الخامسة مساء في أوج ازدحامه وإقبال الناس لارسال رسائلهم أو شراء طوابع بريد ..أو فتح صناديق بريدهم..وحتى الثامنة مساء..

الأجانب هم الأكثر .. سواح ..مدرسين .. وغير ذلك..

كان المدرسون المصريون والسودانيون هم الأكثر .. وكذلك الهنود رجال ونساء كانوا بكثرة ..حتى من ( السيخ) ..

كان الأجانب يمارسون حياتهم بطريقة طبيعية جدا . كانت الهنديات الممرضات في المستشفيات يرتدين الزي الهندي الذي يبين بطن المرأة (وسرتها) دون أي حرج .. أو مضايقات ..

وكان يوجد خلف شارع المطاعم استيريو شهير لبيع الأغاني العربية والسودانية .. كان اسمه استيريو الأهرام..

زوجة الشهيد جمال جميل كانت تأتي إلى البريد بين الحين والآخر..كانت تلبس نظارة وترتدي جاكتا طويلا إلى أسفل الركبة ..كانت كبيرة بالسن .. ويبدو عليها الوقار .. وكان منزل الشهيد العراقي قبل نهاية شارع جمال ..

غدا.. (ميدان التحرير ٣)

لحد الان لم نقل شيء.. الجاي هو الأهم..

الحجر الصحفي في زمن الحوثي