ميدان التحرير ( ٣ )

مجلي الصمدي
الجمعة ، ٠٣ يونيو ٢٠٢٢ الساعة ٠٤:١٩ مساءً

 

في طاولتي بباب مكتب البريد في الثمانينيات بصنعاء كان معي مراية ( مرآة) داخل أحد ادراج الطاولة وذلك لغرض الاطمئنان على بقاء شكلي وشعري مرتبا .. ذلك لاني اعمل خارج وأمام المارة ومرتادي البريد وهم كثر رجال ونساء.. وكان في الدرج المقابل راديو متوسط بني اللون استمع من خلاله لإذاعة صنعاء وبرامجها المختلفة وكنت أستمع في الخامسة والربع مساء لبرنامج مجلة الفكر والأدب... كان يأتي يوم (...) استمعت من خلال هذا البرنامج إلى الكثير من الأفكار التي كان يطرحها الأستاذ البردوني واسماء الكثير من الأدباء والشعراء والفلاسفة ..والحقب الزمنية المختلفة .. كان يتحدث عن الفلسفة والمدينة الفاضلة ..وسقراط وافلاطون وارسطو ونظريته عن القياس.. وتحدث عمن تلاهم في الحقب المتتالية.. تحدث عن الجاهلية ..وتوقف كثيرا عند طه حسين وآراءه وشعره.. وأشار إلى كتابه ( الشعر الجاهلي) وصال وجال فيه عرضا ووصفا وتحليلا.. وتوقف عند أبرز شعراءه ( امرؤ القيس وعمر ابن كلثوم وزهير ابن أبي سلمى والاعشى وغيرهم من شعراء العصر الجاهلي.. وتحدث عن المعلقات وسوق عكاظ وأبرز الملاحم الشعرية .. كما أشار إلى كتابي طه حسين ( علي وبنوه) و ( الفتنة الكبرى) .. وكذلك فعل عند حديثه عن الإسلام وصدر الاسلام وذكر أبرز رموزه من الشعراء ...وماتلى الإسلام من عهود .. توقف عند كل عهد وبينه .. في العصر الأموي والعباسي .. وتوقف عند العصر العباسي كثيراا.. وهذا طبيعي .. كان كثير الإشارة إلى أبي نواس مشيدا بشاعريته الفذه..

تحدث عن الثقافتين العربية والفارسية وكيف تلاقحتا في العصر العباسي.. وكثر حديثه عن علم الكلام أو مايسمى علم التوحيد واسهب فيه كثيرا وعدد الآراء حوله سواء عند الفارابي أو والغزالي وابن خلدون وعند الشيعة أيضا ...

المهم ..كل الحقب وكل العلوم وكل المدارس والاتجاهات الفكرية والثقافية والفلسفية حتى العصر الحالي استمعت إلى نبذات جيدة حولها من خلف طاولتي ومن خلال راديو صغير يبث برنامج ( مجلة الفكر والأدب)..

كنت استمع وابيع للزبائن بنفس الوقت .. وأشوف نفسي بالمراية أيضا هههه

عرفت أسماء الأدباء والشعراء البارزين العرب وغير العرب واليمنيين من خلال البرنامج الذي كان يقرأه المذيع الراحل المخضرم / عبد الملك العيزري.. الذي كان لي شرف مزاملته لاحقا بإذاعة صنعاء واستضافتي له قبل رحيله في إذاعة صوت اليمن الموقوف بثها...

في شارع المطاعم ..وبعد افتتاح مدهش لبوفيته كنت استمع يوميا بعد العصر عند ذهابي لشراء شاي لصوت فيصل علوي الذي كان صوته يملأ المكان ..بينما شخص اسمه (الطويل) كان يسكب الشاي للزبائن بخفة وسرعة ومهارة .. وقد انفصل الطويل عن مدهش لاحقا وصار لكل منهما بوفيته الخاصة ..

وفي الشارع الفرعي لشارع المطاعم توجد فتحة تؤدي إلى شارع الخياطين ومسجد النزيلي ومحل صغير يبيع ( التمبل )

وكان اقبال العدنيين والهنود على التمبل واضحا وبارزا..

التمبل عبارة عن ورق اخضر يشبه اوراق البن وكان يلف بداخله مواد مثل الزر والهيل وأشياء تشبه التوابل ويتم لفه ليشبه إلى حد ما حبة السمبوسة واقفال طرفه بحبة من الزر ( القرنفل) ليكون جاهزللمضغ فقط وليس للابتلاع.. .. وكان ولايزال يعتقد لدى محبي التمبل أنه نوع من الكيف..

ميدان التحرير شعلة من النشاط والحيوية التي لاتهدأ.. حتى الأسواق القريبة منه.. مثل السوق اللي بباب السباح .. المتعدد سلعه ومنتجاته.. حلويات الشعباني الشهيرة ( رواني.. قطايف ..شعوبية .. ومشروب الزبيب والشعير ذات المذاق الذي لا يقاوم..

( كدم ) باب السباح ليس لها مثيل .. و( البرعي) عبارة عن عتر مسلوق داخل قدر كبير ويضاف إليها الحوائج والبهارات لتصبح ارخص وجبة مع ( الكدم) يمكن أن يتناولها المرء. وتقدم للزبون في إناء معدني صغير وللزبون إمكانية أن يغمس قطع الخبز او الكدم غمسا فيها أو يتناول ( اللجع) ثم يلحقة برشفة من البرعي( يهسف) البرعي تقرأ بكسر الباء وتسكين الراء وكسر العين

وفي باب السباح ( الكباب) اللذيذ.. وهناك مجزرة شاسعة المساحة وكثيرة المحال والجزارين.. وخارج المجزرة بائعات اللحوح واللبن البلدي.. وبالقرب من باب السباح حي ( الطبري).. الذي كان يكثر فيه العمال كمستأجرين لدكاكين.. وجامع الطبري الذي كنت احب فيه خطيبه ( الفران) صاحب الوقار اللافت..

في كثير من حلقات برنامج ( مجلة الفكر والأدب) للأستاذ البردوني ..كان يتحدث عن نازك الملائكة وأمل دنقل وبدر شاكر السياب وعباس محمود العقاد وأحمد شوقي وعبد الودود سيف وأحمد ضيف الله العواضي وعلي المقري وحسن الشرفي .. وسعدي يوسف.. وتحدث عن اليساريين في سياق حديثه عن الشعراء والمفكرين..

ميدان التحرير كان مساحة وساحة للرزق والتلاقح والوعي والاطلاع والتعليم والاستماع ومشاهدة الجميلات بالشرشف القديم أو الستارة الصنعانية الشهيرة .. وماتيسر من السائحات الاوربيات الجميلات اللاتي لايبخلن بالتبسم في وجهك وأخذ لقطات لك بعد أن تستأذنك إن اعجبتها..

الحجر الصحفي في زمن الحوثي